الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال الثالث والخمسون


 

تقريراتٌ مختصرةٌ لدرس سماحة السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي (حفظه الله)، في كتاب الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة، بقلم محمود سهلان العكراوي:

 

المقال الثالث والخمسون:

 

الحديثان التاسع والعشرون والثالث والأربعون من الباب الثاني عشر:

]٧٠[ الرواية التاسعة والعشرون: وقول الباقر (عليه السلام): كان الله ولا شيء غيره نورًا لا ظلام فيه.

 

ماذا أراد (عليه السلام) من قوله: "نورا لا ظلام فيه"؟

النور مفهومٌ مشكِّكٌ وينتفي إذا لم يوجد مقابله وهو الظلام، والمفهوم المشكِّك يختلف بدرجة انطباقه على المصاديق، والسرُّ في الكلي المشكِّك أنه يشوبه مقابله فيتفاوت، فالطول -مثلا- مدخولٌ فيه القِصر، لذلك يكون قصيرًا بالنسبة لما هو أطولٌ منه. وعندما نتحدَّث عن الله تعالى نقول: (نورٌ لا ظلام فيه)، لدفع شبهة أنه مفهومٌ مشكِّكٌ ممَّا يؤدي لكونه مشوبًا بالظلام، وهذا من أبسط البراهين وأقواها على استحالة رؤيته وتصوره.

 

]٨٤[ الرواية الثالثة والأربعون: وقول العالم (عليه السلام) في حديث علم الله: فالعلم في المعلوم قبل كونه، والمشيَّة في المُنشأ قبل عينه، والإرادة في المُراد قبل قيامه.

 

إن أي نتيجةٍ لا يمكن أن تحصل إلا بالتقاء شيئين، فالشيء الواحد لا ينتج أمرًا آخر مغايرًا له إلا إذا التقى هذا الشيء بشيءٍ آخر، فلا بدَّ من الاثنينية كي تحصل النتيجة، فهذا الكتاب أمامي -مثلا- أبصرته بالباصرة وحصلتْ له صورةٌ في ذهني، ولكن كيف صار هذا الالتقاء وتحقَّقت له العِلْمية؟ لا يكون هذا إلا إذا كان هناك ما يلتقي به في الذهن، فلو كان الذهن خالٍ من كل شيءٍ لما علمنا بشيء، ولذلك أقول أن كل العلوم موجودةٌ في كل البشر، والقدرة إنما تكون في الملاقاة بين المُدرَك الخارجي وبين الموجود في داخل الإنسان أصلا، فينتج العلم، فالكتاب موجودٌ في ذهني وإن كان مُفرَّقا، فكل ما تكوَّن منه هذا الكتاب واقعًا واعتبارًا موجودٌ في ذهني، قدراتي الذهنية قامت بتجميع الكتاب الموجود في الخارج بالموجود في الذهن، فصار عندي علمٌ به، لذلك نجد الفرد الذي يتعرَّض لفقدان التركيز، لا يتمكَّن من الجمع، فلا يفرق بين الأشياء بالدقة، فتجده لا يميز بين الكتاب والماء مثلا، وإن كان يراهمها جسمين، فالعلم في المعلوم لأنه ما لم يكن فيه لا أتمكن من إخراجه في الواقع، فيكون مُدرَكًا للآخر، أما إخراجي له فيكون إدراكًا متجدِّدًا لا أصليًّا لا أني لم أكن أعلم به، أما الذي لا يعلم عنه شيئًا فيُدركه من الخارج، فالعلم في المعلوم.

أما في قوله (عليه السلام): "والمشيَّة في المُنشأ قبل عينه"، فنقول: أن عين الشيء موجودةٌ في الخارج، أما المُنشأ الذي فيه المشيَّة فهو في الذهن، والمشيَّة في هذا المُنشأ، أي مشيئته تعالى في هذا المُنشأ وإلا لو لم تكن مشيئته فيه لما وُجِد، إذ لا موضوع.

والإرادة في المُراد حالها كما مرَّ بيانه في المشيئة.

 

استطراد:

لماذا ندرس تاريخ المسألة؟ نرجع إلى أفهام العلماء وتصوراتهم للمسائل، وقد يكون أحدهم متصورٌ للمسألة كما ينبغي، لكن لا يلزم من ذلك أن بيانه يكون وافيًا بذلك، ثم أرجع إلى غيره، وأجد أن الفهم متفقٌ عليه بينهم، ثم آتي وأخالف، بحجَّة فتح باب الاجتهاد، وهذا غير صحيح، نعم إذا كان الفهم منهم لم يكن عن علم، كأن يكون العلماء تناقلوها ولم يبحثوها، فالخطأ يكون في العناية بالمسألة، وهو يقع كثيرا، فينبغي أن نبحث هنا في هذه المسألة لأن اتفاقهم لم يكن عن فهمٍ واجتهادٍ وعلم، فكبرى اعتبار المشهور صحيحةٌ لكن الصغرى قد لا تكون ممَّا تنطبق عليه لما ذكرناه من كونها قد لا تكون بُحِثت كما ينبغي.

 

الباب الثالث عشر:

]٨٨[ الرواية الثانية: وعن عِدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن علي بن عقبة بن قيس بن سمعان، قال: سُئِل أمير المؤمنين (عليه السلام) بِمَ عرفت ربك؟ قال: بما عرَّفني نفسه، قيل: وكيف عرَّفك نفسه؟ فقال: لا تشبهه صورة، ولا يُحسُّ ولا يُقاس بالناس، قريبٌ في بُعدِه، بعيدٌ في قُربِه، ... الحديث.

 

تفكير الإنسان قائمٌ على تركيب الصور والمقارنة بينها، ولا تستطيع الممايزة إلا إذا قارنت، لأن نتاج المقارنة هو الممايزة، أما الله تعالى فيُعرَف لكن بالنفي، فإن كل كلمةٍ نقولها تستلزم معنى، والنفي يستلزم وجودًا آخر غير المنفي، وإلا ارتفع النقيضان، وبالتالي فإذا نفيت أمرًا أثبتت النقيض، والبداية تكون من نفي الأضداد، وإذا استمر النفي نصل للنقيض لا الضد، فإذا وصلنا للنقيض أثبتنا وجوده تعالى.

أما قوله (عليه السلام): "قريبٌ في بعده، وبعيدٌ في قربه"، فليس هذا اجتماعٌ للنقيضين بل هو نفيٌ للإضافة، ونفيٌ للنسبية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون