لا تنشرْ كلَّ شيءٍ



ذكرت في مقالٍ سابقٍ أن المفكر يتنقل بين القناعات والأفكار بالاعتماد على الأدلة، ويحافظ على الثوابت كما هي، فهي ليست قابلةً لأن يمسَّها بحالٍ بعد أن قامت البراهين عليها، فالمؤمن مثلا لا يجوز له أن يشكك في التوحيد.


إلا أن هذا التنقل لا ينبغي أن يكون مع كل ريحٍ تهب أو غيمةِ صيفٍ عابرة، فالارتقاء من الفكرة إلى القناعة، أو هبوط القناعة من كونها قناعةً لمجرد فكرة، أو الانتقال من قناعةٍ إلى أخرى، لا يصح إلا أن يكون عن دليل. هذا ما ينبغي أن يكون.


مما مرَّ تبيَّن أن نفس هذه التغيُّرات الفكرية لا ضير فيها، لكن ليس على إطلاقها، فالتغير بين حينٍ وآخر مع كل حدثٍ جديدٍ أو فكرةٍ جديدةٍ تطرأ ليس أمرًا محمودا، ومن هنا ينبغي أن نكون حذرين..


من هنا أصِل لما كنت أريد التنبيه عليه هنا.. قد تتغير قناعاتك بالنسبة إلى شيءٍ ما، وهو حقك ما دام ضمن ضوابط صحيحة، لكن لا يعني ذلك الإعلان عنها بالضرورة، لا سيّما إذا لم تكن هذه القناعة عميقةً بعد، فقد ينكشف لك شيءٌ لم تلتفت له في بادئ الأمر، فيكون التريث هو الطريق الأسلم، وكما انتقلت من قناعةٍ إلى أخرى، قد تنتقل منها وتعود إلى الأولى.


أضف إلى ذلك أن بعض هذه الانتقالات تكون للجهة المقابلة تماما، فتكون انتقالةً فكريةً وسلوكيةً حادة، فالإعلان عنها والبناء عليها بشكلٍ فاقعٍ ومستعجلٍ له آثاره الكبيرة، وقد يدل بطريق (الإن) على عللٍ ليست سليمةً في نفسك، فيكون التريث والهدوء و(الركود) -بتعبير أحد أساتذتي الأجلاء- هو الطريق الأسلم.


يشتد الأمر سوءًا عندما يكون أمرًا يتعلق بالمؤمنين وخياراتهم، فإنهم اختاروا بحسب ما يرون من أدلة، وأنت اخترت بحسب ما ترى من أدلة، فلك حق الاختلاف، لكن ليس لك حق التهجم والعداء، ولا حق خلق الفرقة بين المؤمنين، كما أنك تكون عرضةً للسقوط الاجتماعي، وهو أمرٌ مؤلمٌ بالغ الخطورة، فلا تتهاون..


هنا أكتفي، فإن في فمي ماء..


وقد روي عنهم (عليهم السلام): ما كلُّ ما يُعلمُ يُقال، ولا كلُّ ما يُقالُ حان وقته، ولا كلُّ ما حان وقته حضر أهله. [بحار الأنوار، ج٥٣].


محمود سهلان العكراوي

الأربعاء ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٥هـ

الموافق ٢٩ نوفمبر ٢٠٢٣م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون