الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال السادس والستون

 


تقريراتٌ مختصرةٌ لدرس سماحة السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي (حفظه الله)، في كتاب الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة، بقلم محمود سهلان العكراوي:

 

المقال السادس والستون:

 

]١١٩[ الرواية الثانية: وعن أحمد بن إدريس، عن محمَّد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، قال: سألني أبو قرَّة المحدِّث أن أُدخله إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فاستأذنته في ذلك فأذِن لي فدخل عليه، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد، فقال أبو قرَّة: إنَّا رُوينا أنَّ الله قَسمَ الرؤية والكلام بين نبيِّيَن، فقَسمَ الكلام لموسى ولمحمَّدٍ الرؤية؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلِّغ عن الله إلى الثقلين من الجنِّ والإنس: {لا تُدرِكُه الأبصار} و {لا يحيطونَ بِهِ عِلمًا} و {ليسَ كمِثلِهِ شيء} أليس محمَّد؟ قال: بلى، قال: كيف يَجيءُ رجلٌ إلى الخلق جميعًا فيُخبِرهم أنَّه جاء من عند الله، وأنَّه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: {لا تُدرِكُه الأبصار} و {لا يحيطونَ بِهِ عِلمًا} و {ليسَ كمِثلِهِ شيء} ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأَحطتُ به عِلمًا وهو على صورة البشر! أَمَا تستحون؟ ما قَدرَتِ الزنادقة أنْ ترميه بهذا، أنْ يكونَ يأتي عن الله بشيءٍ ثمَّ يأتي بخلافه من وجهٍ آخر، ثمَّ قال أبو قرَّة: فإنَّه تعالى يقول: {ولَقدْ رَآهُ نَزلَةً أخرى}، فقال أبو الحسن (عليه السلام): إنَّ بعد هذه الآيةِ ما يدلُّ على ما رأى حيثُ قال: {ما كَذَبَ الفؤادُ ما رَأَى}، يقول: ما كَذبَ فؤادُ محمَّدٍ ما رأت عيناه ثمَّ أَخبَرَ بما رأى، فقال: {لَقدْ رَأَى من آياتِ رَبِّهِ الكُبرَى} فآياتُ الله غيرُ الله، وقد قال الله: {ولا يُحيطونَ بِهِ عِلمًا}، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطتْ بِهِ العلم وَوَقَعَت المعرفة. فقال أبو قرَّة: فتُكذِّب بالروايات، فقال أبو الحسن (عليه السلام): إذا كانت الروايات مخالفةً للقرآن كذَّبتُها، وما أجمع المسلمون عليه أنَّه لا يُحاطُ به علما، ولا تُدرِكه الأبصار، وليس كمثله شيء.

 

أبو قرَّة: من محدِّثِي العامة.

يدَّعي أبو قرَّة أن الله خصَّ موسى (عليه السلام) بالكلام، ومحمَّدًا (صلى الله عليه وآله) بالرؤية؛ أيْ رؤية الله تعالى، وردَّ الإمام الرضا (عليه السلام) كلامه بما بلَّغه الرسول (صلَّى الله عليه وآله) عن الله تعالى.

الكُبرى في المقام أن الإنسان لا يرى الله تعالى، وقد جاء بهذا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يُبلِّغ الناس به وهو منهم، والمقام مقام جوابٍ على أبي قرَّة لا بحثًا في التوحيد وعدم الإحاطة العلمية بالله.

استشهد (عليه السلام) بالآية الكريمة: {لا يُحيطونَ بِهِ عِلمًا}، وأراد من العلم: العلم الذي لا يكون إلا بالإبصار، فهو علمٌ خاص، لا أنه لا عِلمَ إلا بالإبصار. ثم بقوله تعالى: {ليسَ كَمِثلِهِ شيء}؛ لأن الأمثال التي بالذهن مصدرها البصر، وكلامنا هنا في خصوص الإبصار، فإن قال النبي (صلَّى الله عليه وآله) أنا رأيته بعيني كما يدَّعون فهو نقضٌ للكبرى التي ذكرناها.

قوله (عليه السلام): "أما تستحون ... من وجه آخر"، ما جئتم به حتى الزنادقة لم تقدرْ عليه، وهذا الأسلوب من الإمام (عليه السلام) نوعٌ ومستوًى من أنواع ومستويات الرد، فقد يكون الجواب أحيانًا للتنوير، وأخرى للتقريع، وفي غيرها بين الاثنين، والردُّ هنا كان تقريعًا إلى أبي قرَّة وأمثاله، حيث جعلوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) متناقضًا بين أقواله وأفعاله، وذلك -أيْ التقريع- كان  بعد نقض كلامه أولا.

حاول أبو قرَّة الردَّ من خلال آيات القرآن وبالتحديد بقوله تعالى: {ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخرَى}، وهو ديدنهم في مثل هذه المقامات، حيث يعمدون لاستعمال الآيات التي تبدو واضحةً في مراداتهم، وفي محلِّ الكلام الوضوح في كلمة (رآه).

المتبادر من الرؤية هي الرؤية البصرية، كما بيَّن الإمام في الرواية حيث قال: "ما كَذَّبَ فؤادُ محمَّدٍ ما رأت عيناه"، فلم يكذِّب الفؤاد ما رآه الرسول (صلَّى الله عليه وآله).

قد تحصل الشبهة في أن ما رآه الرسول (صلَّى الله عليه وآله) هو الله تعالى، وذلك من خلال إرجاع الضمير في رآه على الله تعالى، أما قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى من آياتِ رَبِّهِ الكُبرَى}، فيكون أمرًا آخر لا ينفي رؤية الله.

 

تنبيه:

لا نقول أن اعتماد اللغة العربية غيرُ صحيح، لكنها لا يُفسَّر بها النص، إنما يُفسَّر النصُّ بالظاهر، وباللغة يستقيم كلامنا نحن، ولا ننفي أن القرآن خاضعٌ للُّغة العربية، لكن بعض المُضمَرَات يبيِّنُها المعصوم دون غيره، وقد نقف على الكثير من الآيات التي هي في جانبٍ من جهة اللغة والإمام (عليه السلام) في جانبٍ آخر، فيُفسِّر خلاف القاعدة اللغوية.

 

كيف تعامل الإمام (عليه السلام) مع إشكال أبي قرَّة؟

قال أن في الآيات ما يدلُّ على الذي رآه الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولكن لو لم يوجد هذا في الآية، هل يقرُّ الإمام ما قال به أبو قرَّة أم لا؟ فالإيراد على إشكال أبي قرَّة هو: أن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى، ولم يكذِّب فؤاده بما رأت عيناه، إلى آخر الرواية.

لكن أبا قرَّة ظل متمسكًا بما قاله، وهو عربي، ولم يجبه الإمام ببساطةٍ بإرجاع الضمائر، وباللغة العربية، لكن أجابه بأن الروايات التي تستند عليها مخالفةٌ للقرآن، الذي أجمع عليه المسلمون، والذي يفيد عدم القدرة على رؤيته والإحاطة به.

فلو تمسَّكنا بما قاله أبو قرَّة وقارنَّا بينه وبين الآيات الأخرى لوقع التناقض في القرآن الكريم.

نريد أن نفهم طريقة إجابة الإمام على أبي قرَّة، فهناك رواياتٌ أخرى يجيب الإمام فيها بشكلٍ مختلف، كما لو كان السائل من المؤمنين، أما في ما نحن فيه فالكلام مع محدِّثٍ من المخالفين، يُثبِت رؤية رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لربِّه، بإرجاع الضمير في الآية لله سبحانه وتعالى.

أجاب الإمام (عليه السلام) بآياتٍ أخرى، فالرؤية قد تكون الرؤية البصرية، وقد تكون الرؤية القلبية، فإما أن يكون الفؤاد لم يكذِّب ما رأى البصر، أو أنه لم يكذِّب ما رأى هو نفسه، ولكن الإمام يصرِّح أن الرؤية بصرية، ولو سلَّمنا بما قلت يا أبا قرَّة قلنا أن الآية الأخرى تبيِّن أن المقصود ليس هو الله تعالى، بل المرئي هي آياتٌ من آيات الله تعالى، والتوقف إنما كان في الضمير حيث قال (رآه) ولم يقل (رآها)، مع أن الإمام يقول أن المرئي هي الآيات.

التوجيه يكون بالقول أنه (صلَّى الله عليه وآله) رأى الله تعالى، لكن رآه من خلال آثاره، لا رآه هو، لأنه لا يُرى.

ثم يكرِّر الآيات التي سبق أن ذكرها، وكلها راجعةٌ لبحثٍ كلاميٍّ عقلي، فإذا أثبتنا الاستحالة العقلية، نوجه ما يظهر منه مخالفة هذا الثابت عقلا.

مع كل ما قاله الإمام (عليه السلام) لم يصدِّق أبو قرَّة، لأنه صاحب أصولٍ خاصة، وهي ما رواه عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، بل استنكر على الإمام تكذيبه برواياته، لكن الإمام أرجعه لقواعد ردَّ من خلالها الروايات، وهي مخالفتها للقرآن، وما أجمع عليه المسلمون من عدم إمكان الرؤية.

 

تنبيه:

كل شيءٍ نبالغ فيه في مقام الفهم لا يكون صحيحا، سواء كان لغةً أو أصولًا أو منطقًا أو غير ذلك، فعندما نأتي للنصِّ ينبغي أولًا أن نحاول فهمه بأنفسنا، ولا نُلغي فهمنا، ثم نرجع للعلوم التي نحتاجها في المقام.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون