الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال الثالث السابعون


تقريراتٌ مختصرةٌ لدرس سماحة السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي (حفظه الله)، في كتاب الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة، بقلم محمود سهلان العكراوي:

المقال الثالث والسبعون:

 

أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها -  ب٢٣ - أنَّ صفات الله سبحانه الذاتية ليس شيءٌ منها زايدًا على ذاته ولا مغايرًا لها:

الباب الثالث والعشرون يتحدَّث عن الصفات الذاتية، وعندنا في المقابل الصفات الفعلية، والفرق بينهما أنَّ هناك من الصفات ما يحتمل الصدق والكذب المنطقيين، فقد نقول الله تعالى رازقٌ بمعنى أنَّه يرزق الآن ولا مخلوق، فهذه القضية منطقيًا لا صدق لها في الخارج، لا أنَّه تعالى ليس برازق، لكنْ لا فعلية لها في الخارج، وهذه تُسمى الصفات الفعلية، وقد وقع فيها الكلام، ومن أوائلها صفة الكلام، وأوَّل من ابتدعها هو يُوحنا الدمشقي، وكان من مستشاري الدولة العباسية، وقد دخل من كون عيسى بن مريم كلمة الله، ثمَّ تساءل ما معنى هذه الكلمة، وكيف تكلَّم بها الله تعالى، ثمَّ تَلَقَّفها بعض علماء المسلمين وتحدَّثوا في القرآن الكريم على اعتبار أنَّه كلام الله تعالى.

وكيف كان، في هذه الروايات عندما نقول هذا الأمر زائد، فهو في قِبال ما هو من قوام الذات، وهذه العناوين التي لا تتحقَّق الذات إلا بها لا تكون زائدةً على الذات، أمَّا ما يمكن فصله عن الذات فهو زائدٌ عليها، فإذا سلَّمنا بأنَّ ماهية الإنسان هي الحيوانية الناطقية، فكل شيءٍ خارجٌ عن جنسه وفصله لا يكون من الذات، لأنَّ انتفاءه لا يؤثِّر على الذات، وكذا الأمر في الموضوع في بحوثٍ أخرى، فكثيرًا ما يقع النزاع في ما هو خارجٌ عن ذات الموضوع، وتُتْلَف الأوقات فيها على اعتبار أنَّها ليست زائدة.

 

]١٣٦[ الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن عليِّ بن إبراهيم، عن محمَّد بن خالد الطيالسي، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لم يزل الله عزَّ وجلَّ ربُّنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مُبصَر، والقدرة ذاته ولا مقدور، إلى أنْ قال: قلت: فلم يزل الله متكلِّمًا؟ قال: فقال: إنَّ الكلام صفةٌ محدثةٌ ليست بأزليَّة، كان الله عزَّ وجلَّ ولا متكلم.

 

"العلم ذاته" أيْ ليس بصفةٍ زائدةٍ عنه، وكذا في الباقي، من السمع والبصر والقدرة.

لكنْ هل صفة (الكلام) مثل تلك الصفات المزبورة؟ أجاب الإمام (عليه السلام) بأنَّ الكلام يختلف عن تلك الصفات، وهو ليس بأزلي.

لا يوجد لدينا إلا أفعال، نعم هناك أفعالٌ استدعتها أفعالٌ أخرى، ونسميه رد فعلٍ بالقياس إلى الفعل الأول، فيوجد لدينا نارٌ وخشبٌ مثلا، فنسمي النار فاعلا، وإذا احترق الخشب نسميه قابلا، ولكنْ من جهة احتراقه دون القياس إلى النار يكون فاعلا، فلا يوجد في هذا الوجود إلى فواعل، ولكنْ بالقياس للفاعل الأول نسمي الثاني مفعولا، أو منفعلا.

الآن، ما الفرق بين الكلام وبين السمع؟ الكلام قد يكون ابتدائيًا، وقد يكون ممَّا استدعاه فعلٌ آخر، أمَّا السمع لا يكون إلا ممَّا يستوجبه فعلٌ آخر، فإذا قلنا الله تعالى يسمع، ولا توجد حركةٌ ولا صوتٌ ولا أيّ شيء، فلا سمع فإنَّه لا يوجد ما استدعى السمع، أما الكلام فيصح أنْ يتكلَّم ولا سامع لهذا الكلام، ولا نتحدَّث من جهةٍ لغويةٍ هذا الكلام، إنَّما نريد أنْ نبيِّن أنَّ هذه الصفة مُحدَثة، ومن جهة القدرة هذه الصفة راجعةٌ إلى القدرة والإرادة، أمَّا فعلية الكلام فهو أمرٌ آخر.

نحن الشيعة نقول أنَّ الكلام هذه الألفاظ ولا شيء وراءه إلا العلم والقدرة والإرادة، بخلاف غيرنا كالأشاعرة الذين يرون أمرًا آخر، وكل هذا النقاش الذي وقع فيها إنَّما كان لأنَّها من الصفات الفعلية، أيْ أنها كانت بعد أن لم تكن، وذلك لأنها ليست ذاتية.

 

]١٣٧[ الرواية الثانية: وعنه، عن محمَّد بن عيسى بن عُبيد، عن حمَّاد، عن حَريز، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) أنَّه قال في صفة القديم: إنَّه واحدٌ صمدٌ أحديُّ المعنى ليس بمعاني كثيرةٍ مختلفة، قال: قلت: جُعِلتُ فداك، يزعم قومٌ من أهل العراق أنَّه يسمع بغير الذي يُبصِر به، ويُبصِر بغير الذي يسمع، قال: فقال: كذبوا وأَلحَدوا وشبَّهوا، تعالى الله عزَّ وجل، إنَّه سميعٌ بصيرٌ، يسمع بما يُبصِر، ويُبصِر بما يسمع، قال: قلت: يزعمون أنَّه بصيرٌ على ما يعقلونه، قال: فقال: تعالى الله، إنَّما يعقل ما كان بصفة المخلوق، وليس الله كذلك.

 

تحدَّثنا سابقًا في مسألة الانتزاع، وهو لا يكون إلا بملاحظة طرفين، فلو قلتُ فلانٌ ذكي، لا بدَّ لي أوَّلًا أنْ أُلاحظ ما يظهر فيه ذكاؤه، فأنظر إليه وإلى المورد، وأقيس ثمَّ أنتزع الصفة، ويمكن أنْ أَتصوَّره دون هذه الصفة، ثمَّ أنظر في جانبٍ آخر فأجد فيه صفةً أخرى، فيمكن أنْ أَتصوَّره بلا هذه الصفة، وهكذا صفاته مُتكثِّرة. والإمام (عليه السلام) في هذه الرواية يريد أنْ يقول أنَّنا من هذه الجهة نقول أنَّه قادرٌ وخالقٌ وعالمٌ إلى آخره، لكنْ ليس على نحو التكثُّر، لذلك صدَّر كلامه (عليه السلام): "إنَّه واحدٌ صمدٌ أحديُّ المعنى ليس بمعاني كثيرةٍ مختلفة". من هنا يقع الكلام في إمكان نزع هذه الصفات عن الذات الإلهية، لا في تعدُّدِها، لذا لو لم يبيِّن الله صفاته لتوجَّهنا إلى مخلوقاته، وانتزعنا القدرة والعلم والإرادة وغيرها، وهذا التعدُّد إنَّما هو لأنَّنا ننظر إلى جهاتٍ مختلفة، لا لأنَّ الصفات متكثِّرة في الله تعالى، أمَّا في الإنسان فهي تتكثَّر وهي عِدَّة معانٍ لأنَّها غير الذات.

أمَّا ما قاله القوم من أهل العراق بأنَّه يُبصِر بغير ما يسمع، ويسمع بغير ما يُبصِر، فهذا يعني تكثَّر المعاني، لوجود جِهةٍ يسمع بها غير التي يُبصِر بها، وردَّ الإمام (عليه السلام) هذا القول.

ننظر في الباء في قوله (عليه السلام): "يسمع بما يُبصِر، ويُبصِر بما يسمع"، فهي تُوقِعنا فيما هربنا منه من سماعه بواسطةٍ ووسيلة، فصارت الذات شيءٌ والسمع شيءٌ آخر، وسنرجع لها في الرواية التالية.

الأمر الآخر، نحن نُبصِر ما نعقله، أمَّا غيرها ممَّا يكون أكبر من إدراك الذهن لا يمكن أنْ نُبصِره.

 

]١٣٨[ الرواية الثالثة: وعنه، عن أبيه، عن العبَّاس بن عمرو، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: في حديث الزنديق الذي سأله: أتقولُ إنَّه سميعٌ بصير؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو سميعٌ بصيرٌ بغير جارحة، ويبصر بغير آلة، بل يسمع بنفسه، ويُبصِر بنفسه، وليس قولي يسمع بنفسه ويُبصِر بنفسه أنَّه شيء، والنفس شيءٌ آخر، ولكنِّي أردتُ عبارةً عن نفسي إذ كنتُ مسؤولا، وإفهامًا لك إذ كنتَ سائلا، فأقول: يسمع بكلِّه، لا أنَّ كلَّه له بعض، لأنَّ الكلَّ لنا بعض، ولكنْ أردتُ إفهامك والتعبير عن نفسي، وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنَّه السميع البصير العليم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى.

 

لاحظ استدراكات الإمام (عليه السلام) بعد الجواب في قوله: "وليس قولي يسمع ... اختلاف المعنى"، ونحن هنا نربط بين هذا القول والباء في الرواية السابقة، فإنَّ الباء قد تُثبت الوسيلة والواسطة والتعدُّد لولا إرجاعها للعقيدة والكلام، وإنَّما كان استعمالها لضيق العبارة عن الحقيقة، والكلام هو طريقنا للتعبير والتفهيم، وهو أمرٌ منتزعٌ من الخارج الذي تُقاس فيه الأشياء على بعضها البعض، وهذا ما دعا الإمام (عليه السلام) للاستدراك أكثر من مرة، لا سيَّما وأنَّه يحاور زنديقًا يحتمل منه الوقوف على كل شيءٍ للإشكال من خلاله.

لو أخذنا شخصًا وقرَّبناه من الحقائق في السماء، فإنَّه لا يتمكَّن من التعبير عن كل ما رآه، لأنَّنا كلما اقتربنا من الحقائق ضاقت العبائر عنها، وذلك لأنَّ العبائر قائمةٌ على المقايسات والانتزاع كما بيَّناه.

 

فائدة:

في المناطق البدائية تجد عددَ كلماتِ تلك الأقوام محدودةً جدًّا، وذلك لمحدودية أدواتهم وحاجاتهم، ولكنَّك تجد بعض اللغات غنيةً وواسعةً كاللغة العربية، وسِعَة اللغة وتكثُّر ألفاظها دليلٌ على انفتاح وذكاء وخيال أهلها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون