بريدي الإلكتروني (٨) حياةٌ كلها خريف
بعد التحية السلام..
قد يُزهر ربيع بعض الفتيات، ثم تتقلَّب بهنَّ الفصول، ويلحقهن خريفٌ غير معلومٍ إنْ كان سيرحل من حياتهن أو أنَّه سيحتلها حتى تنقطع أنفاس أحلامهنَّ الوردية، لكنهن جرَّبنَ شيئًا من برد الربيع وسحره، وبعضًا من دفئ الصيف وحرارته، وعشنَ ليالي العشاق سهرًا في فصل الشتاء البارد، أما أنا فلم أستنشق إلا نسيم فصلين، انقسمت إليهما حياتي..
عشت شتاءً باردًا منذ طفولتي، ما عدا بعض الدفئ والحنان الذي منحني إياه والديَّ، الذي ينتزع البرد من أطرافي، ويُذهب الرعشة من بدني، لأعيش بأمانٍ بحضنيهما الحنونين، وهكذا استمرت حياتي باردةً جدا، تُساوق برد ألاسكا، وثلوج الإسكيمو، حتى أنهيت دراستي، وأوقفتها بعد المرحلة الثانوية، فلم يؤهلني معدلي للحصول على بعثةٍ أو منحة، ولم تكن حالتنا المادية تسمح لي بالتكفل بدراستي، فأطفأت شمعة أملٍ كانت لتغير الكثير في حياتي..
ازدادت حياتي برودًا بعد برود، خصوصًا مع رحيل الشخص الذي كنت أعتبره الأمان لي، نعم انتقل والدي لجوار ربِّه، الأمر الذي آلمني كثيرا، وأشعرني لأول مرةٍ بأنني لا ظهر ولا سناد لي، لا أمان ولا اطمئنان، وليته كان شعورَ لحظةٍ واحدةٍ ومضى، لكنه أبى إلا أنْ يكون شعور كلِّ لحظاتي، وزاده ألمًا مرض والدتي وآلامها، حيث صارت هي من تحتاج لرعايتي أنا وإخوتي وأخواتي..
مع بلوغي منتصف العشرينات من العمر كنت أحلم كما تحلم أي فتاةٍ أنْ تزهر حياتها، ويحل فصل الربيع، لتعيش بأحضان زوجها، تغذي قلبه ويغذي قلبها، تحن عليه ويحن عليها، تعيش عاشقةً له ومعشوقة، تتقلَّب فصول حياتها معه، كما حلمت يومًا أنَّ ولدًا صغيرًا بدأ يتعلم المشي وهو يناديني: (ماما)، وبنتًا رائعة الجمال حوريةً تمشي على الأرض، تنهمر دموعها لأنَّني ابتعدت عنها لخمس دقائق فجاءت تجري نحوي باكيةً لأحتضنها، لكنَّ شيئًا من ذلك لم يكن، وظلَّ العمر يجري على ذات المنوال، خريفٌ طويلٌ لا يريد أنْ ينقضي.. آهٍ منه ثم آه..
صرت أشك في نفسي.. هل أنا قبيحةٌ لهذا الحد؟! هل يظنون أنَّني سيئة؟ هل يتجاهلونني لأنَّني لست بمثقفةٍ كما يظنون؟ هل لي أنْ ألوم أحدًا وأنا خريجة الثانوية بمعدلٍ ضعيف؟ لا أدري ما الذي يجري.. تقدم بعضهم لخطبتي لكنهم جميعًا يرحلون، ويرفضون قبل أنْ أقول أنَّني موافقةٌ أم لا.. آه.. هكذا تظل الشكوك والأوهام تجتاحني، وتؤرِّق عالمي الضيق..
حاولت أنْ أغير حياتي بمفردي، وبطريقتي، فلجأت للورق والأقلام، وبدأ ألمي ينزف حبرًا على الورق، حيث استحال الدم الأحمر إلى حبرٍ أزرق، لطَّخت به تلك الأوراق، وما أكثر أنْ تخيلت أنَّه خضابٌ لعروسٍ ستزف إلى عريسها عما قريب، وفي عمق ذلك الألم كانت تعيش كل آمالي، فمع كل صرخة ألمٍ خطتها أناملي الذابلة ينبض قلبي بأملٍ جديدٍ يبثه لسائر أجزاء جسدي المنهك النحيف.. نعم لقد احتضنتْ تلك الوريقات آلامي وآمالي معا، فوجدت شريكًا لطيفًا يشاركني همومي كلها، دون أي ضررٍ يذكر.. نِعم الصديق ونِعم الرفيق.. لقد كانت تكتم أسراري وتخرجها من صدري الممتلئ بها همًّا..
اعتدت بعدها على زيارة مكتبةٍ بسيطةٍ جدًّا بجوار منزلنا، تبعد ما يقرب من خمس دقائق عنا مشيًا على الأقدام، فكان صباح يوم السبت لا يمر دون زيارةٍ مني لها، أقتني منها كتابًا أو أكثر، وأجدد صداقاتي مع أوراقٍ وأقلامٍ جديدة، وكان أحد الشباب هو من يعمل بتلك المكتبة، وكان تعامله مع الزبائن لطيفًا جدا، لكن الأمر لم يتعد ذلك بالنسبة لي، إلا أنَّ المدة التي أستغرق فيها الوصول للمكتبة صارت أقصر من ذي قبلٍ بكثير، وأصبحت ثلاث دقائق فقط، والمدة التي كنت أقضيها بالمكتبة تضاعفت، فكنت في السابق لا أستغرق أكثر من ربع ساعة، أما الآن فأمكث متجولةً بين الرفوف ما يزيد على نصف ساعة، حتى أنَّني قضيت ساعةً كاملةً هناك في بعص زياراتي.. بدأتْ أسئلتي تزيد لصاحب المكتبة، والذي كان لطيفًا كعادته، ولم يبدِ أي ضيقٍ مني، وكنت أسترق النظر لعينيه أحيانًا وأسعد كثيرًا بابتسامته.. لم يتوقَّف الأمر هنا فلم أخبركم بأنَّني كنت أطلب منه أن يرسل لي عناوين الكتب الجديدة عبر الواتس أب، وفقط.. لكنني صرت أسأله عن محتواها، وأطلب رأيه فيها، ولم أشعر حينها أنني كنت أقصد ذلك، لكن الشيء الوحيد الذي كنت متأكدةً منه أنني معجبةٌ به، وبأخلاقه، ولأكون صريحةً بجماله أيضا..
في ليلةٍ جمَّلها طقسها المعتدل وصفاء السماء، كانت النجوم لامعةً في أفقها، والقمر يمنح نوره لكل ناظرٍ إليه، لا أنسى أنَّها ليلة السبت، فغدًا ستكون لي زيارةٌ أخرى للمكتبة، شعرت بتدفقٍ غزيرٍ لمشاعري بشكلٍ لم أشعر به قط، بل لم أتخيَّله يوما، أحسست بشيءٍ يتحرك داخلي ويلامس روحي بقوة، وكلما انتبهت من سكراته سمعت صوت مصطفى، ورأيت ابتسامته، وشخصتْ أمامي عيناه، حتى أنني تركت كل شيءٍ جانبا، أقلامي، دفاتري، كتبي، وهاتفي، وبقيت مستلقيةً على سريري، الذي شعرت أنَّه لا يستطيع احتوائي لفرط شعوري، فهاجمني السهر بعد أنْ غزتني الأحلام، وكلما حاولت طردها لأنام عادت لتهاجمني بشراسة، نعم بشراسة، لكنها ألذ شعورٍ عرفته في حياتي..
توجهت للمكتبة بسرعةِ عدَّاء، وما أسرع أنْ فتحت الباب، وكنت أول زبونٍ ذلك اليوم، فللتَّو أضاء مصطفى المصابيح، وعقارب الساعة بالمكتبة كانت تشير إلى التاسعة وثلاث دقائق وبضع ثوان.. وبقيت أتجول بين الكتب، أفتح كتابًا وأتصفح آخر، لكن علامات الارتباك كانت ظاهرةً عليَّ بشكلٍ واضح، وكنت أحاول إخفاءها كي لا يكون حالي ملفتًا لأحد، حتى أنني لم أنظر في عينيه في تلك اللحظات، فقد خفت أنْ يقرأ شيئًا في نظراتي وملامحي، وقد تغشَّاني الخجل بشدة، واقتنيت كتابًا واحدًا بعد دقائق لم تتجاوز العشر، ودفعت قيمته ونظرت بعينيه لمرةٍ واحدةٍ وعدت سريعًا لمنزلي..
ظلت مشاعري تزداد تجاه مصطفى، حتى تيقنت أنَّه سكن قلبي، نعم.. لأول مرةٍ في حياتي أعيش شعور الحب، وكان ذلك لك فقط يا مصطفى.. لم أتمكن من الصبر على حالي كثيرا، أخذت الهاتف وسلمت عليه برسالةٍ قصيرة، ثم: شكرًا لك يا مصطفى على تعاملك اللطيف واقتراحاتك المتميزة.
مصطفى: على الرحب والسعة، وبخدمتكم دائما.
فرحت جدًّا بتجاوبه معي، وظننت أنَّ الأمر انتهى، لكنني رفعت الهاتف مرةً أخرى بعد دقائق فقط: كم أتمنى أنْ يرزقني الله زوجًا مثلك.
رد على رسالتي برسالة شكرٍ وامتنانٍ ولم يزد على ذلك شيئا، وظل حالي كما هو، مشاعر حبٍّ وشوقٍ تتزايد في كل آن، أكبح جماحها ما استطعت، فلا زلت لا أعرف حاله جيدا، ولا أدري إنْ كان سيبادلني المشاعر أم لا، فهو لطيفٌ مع الجميع على أي حال..
شعرت لوهلةٍ بأنَّ آلام السهام التي توجه لي ستهدأ، والجراح ستندمل، فكثيرًا ما سمعت أنَّها بدأت تكبر، ولن يتزوجها أحدٌ بعد ذلك، وأنَّ قطار الزواج قد فاتها، وغير ذلك من الكلمات الجارحة، والتي كانت أشبه برياحٍ تساقط كل أوراقي، وتنزع من حياتي أي خضرة، لتوقف أي عملية بناء، فأشعة الشمس لا تلقى سطحًا خصبًا تنزل عليه حينها، والأكسجين لا يجد رئةً تتنفس.. ها هو الأمل ينعشني بعد صبرٍ طويل..
مرت عدة أسابيع لم تخلُ من بعض رسائلي وكلماتي التي كانت تتودد له، وكان يستقبلها بلطفٍ لكنه لا يعلن شيئًا من مشاعره، ما جعلني في حيرةٍ من أمري، فلا هو يستقبلني، ولا هو يرفضني، إلى أنْ جاءت إحدى الجُمُعات، وأرسل لي قائمة الكتب كالعادة لكنه بكَّر في ذلك هذه المرة! وأرسلها صباحًا بدلًا من المساء، ولا أعلم إنْ قصد أنْ يرسل رسالةً غير مباشرةٍ لي أم لا، فهو لطيفٌ على أي حالٍ حتى في رسائله المؤلمة، فأخبرني حينها قائلا: سأتوجه هذه الليلة لأعتمر ببيت الله الحرام، وستتولى (زوجتي) شؤون المكتبة في غيابي، فلا تقلقي، يمكنك الذهاب فالمكتبة مفتوحةٌ غدا.
آه كم آلمتني تلك الرسالة، ولا أدري من المذنب يا ترى، هل هو قلبي واستعجالي بالبوح؟ أم هو تأخره في إخباري بارتباطه؟ لم يَعدني بشيء، ولم يبادلني مشاعر المحبة، لكنه لم يمنعني كذلك، هل أقول أنَّها قسوةٌ من أعماق اللطف؟ أم ماذا أقول؟ لا أعلم.. حالةٌ من الكآبة اجتاحتني، هذا كل ما في الأمر..
حبست كل مشاعري بكل ما أستطيع، وإنْ نزفتْ أحيانا، وظل تواصلي معه من أجل الكتاب، ومن أجل العلم، إلى أنْ أشار عليَّ بالدراسة، نعم حرَّك في ذهني تلك الفكرة بعد أنْ انقطعت عن الدراسة قرابة عشرة أعوام، وبقيت أفكر بالأمر لعدة أيام، إلى أنْ قرَّرت أنْ ألتحق بإحدى الحوزات، فكانت الدراسة الحوزوية تناسب ميولي واهتماماتي كثيرا، وتحركت بجدٍ من أجل ذلك، إلى أنْ وجدت ضالَّتي والتحقت بالحوزة التي اعتقدت أنَّها الأنسب.
استمرَّ فصل الخريف يساقط كل أوراقي، وترميني رياحه بالألم، إلا شجرةً واحدة، جعلتني أشعر بالربيع، وإنْ كان بزاويةٍ من خريف يأكل حياتي، إنَّها شجرة العلم التي ساهم مصطفى في سقايتها، وبدأت أجني ثمارها..
تناسيت مصطفى الشخص، وبقيتْ له بصمةٌ في حياتي، وبقيت -نبيلة- زبونةً بمكتبة مصطفى، تبحث عن ربيعها مع شريك حياتها المستقبلي، وتتأمل أنْ ينقضي الخريف في عجالة، فكم كان طويلًا وثقيلًا على قلبها..
نبيلة
ملاحظة: نُشرتْ هذه المقالة سابقًا عبر مدونة ارتقاء.
محمود سهلان
٢٩ يناير ٢٠١٧
تعليقات
إرسال تعليق