الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال الثمانون
تقريراتٌ مختصرةٌ لدرس سماحة السيِّد محمَّد
السيِّد علي العلوي (حفظه الله)، في كتاب الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة، بقلم
محمود سهلان العكراوي:
المقال الثمانون:
نلاحظ
اهتمام الشيخ الحرِّ العاملي بنفي مسألة العقول المجردة في روايات هذا الباب،
والذي بلور ونظَّر لهذه المسألة من الطوائف الإسلامية هم الإسماعيليون، وتبدأ هذه
المسألة من سؤال: كيف بدأ الله الخلق؟ وهذه النقطة إمَّا أنْ تُبحث بدقةٍ ويتحرَّز
فيها الباحث بعدة قيود، وإلا فالنتائج قد تكون باطلةً، ولا يترتب على هذا البطلان
شيءٌ، وقد يترتب عليه بعض المحاذير. الله سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ، وبمجرد
أنْ تسأل عن كيفية أول خلقٍ وقعتَ في المحاذير، لأنَّك تدخل في مسألة فرض الزمن.
يقولون
أنَّ الله خلق العقل الأول، ويشترك هذا مع الله تعالى في التنزيه، ولا يقصدون
التنزيه المطلق، أمَّا الافتراق يكمن في أنَّ الله لا جهات له والعقل الأول له
جهات، ومن هذه الجهات صدرتِ الأفلاك، وكلُّ جهةٍ لها فلك، وكلُّ فلكٍ له خلقه، ثم
من العقل الأول صدر العقل الثاني، وما نفعله واقعًا هو الفرار من محذور صدور
الكثير عن الواحد، ونلتزم بصدور الواحد عن الواحد، وهذا من أهمِّ المحاذير التي
أرادوا الفرار منها في هذه النظرية، وبتعبيرٍ آخر كلُّ خلقٍ يصدر من جهةٍ، ولكلِّ
جهةٍ فلكٌ ونظامٌ، ومخلوقات العقل الأول مستقلةٌ عن مخلوقات العقل الثاني في
أفلاكها، وهكذا العقول الباقية، حتى نصل للعقل العاشر وهو الفعَّال. يأتي مثل الحرِّ
العاملي ويتساءل كيف انتهيتم إلى هذه الصياغة، وينظر في أدلتهم.
مع
ذلك، عندما نأتي لمثل هذه النظريات لا يصحُّ أنْ نسخر منها، ولا ينبغي استصغار
عقليات أصحابها، ومثل نظرية العقول العشرة أثبتها بعض علماء الشيعة، وإنْ لم تثبت
عندي فينبغي أنْ أكتفي برفضها والاستدلال على خطئها، دون اللجوء إلى تسخيفها
والسخرية من أصحابها. كطالب علمٍ لا ينبغي أنْ أُربِّي نفسي سلوكيًا على السخرية.
[١٥٧] الرواية الثامنة: ومنها ما
رواه في كتاب التوحيد، عن الرضا (عليه السلام) في حديثٍ قال: ولا معرفةَ إلا
بالإخلاص، ولا إخلاصَ مع التشبيه، فكلُّ ما في الخَلقِ لا يُوجَد في خالقه، وكلُّ
ما يُمكِن فيه يمتنع من صانعه ... الحديث.
"ومن
قال بالعقول المجردة لا يبقي هذا العام على عمومه، لأن فيها الوحدة والتجرد".
والطرف
الآخر يردُّ على كلام الشيخ الحرِّ فيقول في الأعدام لا يوجد لدينا مُشابهةٌ، وهذا
من وَصفِ الأمور العدمية وهي قضايا مبحوثةٌ في المعقول، وليستْ من النصوص، وهذا لا
يعترف به الشيخ الحرُّ العاملي.
المقصود
بالإخلاص هنا إخلاص التوحيد لا إخلاص النية، أيْ أنَّنا لا نتمكن من معرفته تعالى
إلا بالتنزيه، أيْ بتخليص ما في أذهاننا ممَّا يُشابِه الخلق، ودليله ما في ذيل
الكلام.
قاعدتان:
الأولى:
كلُّ ما في الخَلقِ لا يوجد في خالقه.
الثانية:
كلُّ ما يمكن في المخلوق يمتنع من صانعه.
[١٥٨] الشاهد التاسع: ومنها ما
دلَّ من الآية والرواية على أنَّ الملائكة لا تعلم شيئًا إلا بأنْ يُعلِّمها الله.
ومن قال بالعقول المجردة قال إنَّها تعلم كلَّ شيءٍ بغير تعليم.
هم
يقولون تعلم لأنَّها من فلك العقل الأول، فهي تعلم دون أنْ تُعلَّم، لأنَّها صادرةٌ
عن جهة علمٍ، فيكون العلم مثلًا من ذاتيات الملائكة، ويرى الشيخ الحرُّ أنَّ هذا
مخالفٌ للنصوص كقوله تعالى: {لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}
[البقرة/ ٣٢]، فيجيبون هناك أنَّ كلامنا في العلم الأولي لا التفصيلي، وفي
الواقع يتحوَّل الكلام إلى جدلٍ مُتعِبٍ جدًّا.
نرى
أنَّ حلَّ مشكلة الخلق الأول وجود جهةٍ غير معلومةٍ لنا في الجهة المتوسطة، فنعلم
بجانبٍ منها وما تحته، ولا نعلم بالجهة الغيبية فيه ولسنا مكلَّفين بمعرفتها.
[١٥٩] الرواية العاشرة: ومنها ما
رواه الكليني، والصدوق، وغيرهما، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى:
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة/ ٢٥٥] قال: الكُرسيُّ وَسِعَ
السماوات والأرض، والعرشُ وكلُّ شيءٍ في الكرسي.
من
إشكالات الملحدين ومَنْ يستقلُّون بعقولهم لفهم القرآن أنَّ الأرض لا تساوي شيئًا
من الكون فكيف يتحدَّث قرآنكم عن الأرض بمثل هذه الطريقة، فنُجيب بأنَّ الأرض ليستْ
هي هذه الكُرة، بل كلُّ ما استقرَّ عليه شيءٌ وفارَقَ العلو فهو أرضٌ، فأين ما
تذهب في هذا الوجود فهناك جهةٌ عليا بالنسبة لك، فالحديث عن السماء حديثٌ عن
امتدادٍ يقابله امتدادٌ آخر وهو الأرض، فقوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
والأَرْضَ} يعني وَسع كرسيه كلَّ هذا الوجود، وهذا التعبير حقيقيٌّ وليس
بمجاز، وذلك أنَّ الله تعالى يخاطبنا بألفاظنا التي نفهمها.
قوله
(عليه السلام): "والعرش وكلُّ شيءٍ في الكرسي" يعني أنَّ كلَّ
الخلقِ في الكرسي.
أما
الكرسي فيفسره أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّه سَلطنة الله سبحانه وتعالى ومُلكه،
والعرش دون الكرسي، ويمكن لنا لتقريب الصورة أنْ نشبِّهه بمكان إدارة الأمور.
[١٦٠] الرواية الحادية عشر:
ومنها ما رواه في التوحيد، بسنده عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) وقد سُئِل عن أوَّل
ما خلق الله؟ فقال: إنَّ الله كان خالقًا ولا مخلوق، فأوَّل ما خَلَقَهُ مِن خَلقِهِ
الشيء الذي جميع الأشياء منه، وهو الماء ... الحديث.
مرَّ
الكلام فيها.
[١٦١] الرواية الثانية عشر: وروى
عليُّ بن إبراهيم في تفسيره، بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول إبليس:
{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف/ ١٢] فقال: كَذَبَ
إبليس، ما خَلْقٌ خَلَقَهُ الله إلا من طين، قال الله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِّنَ
الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس/ ٨٠] خَلَقَ الله النارَ من الشجر، والشجرُ أصلُهُ
من طين.
[١٦٢] الشاهد الثالث عشر: ومنها
ما رُوي: أنَّ الروحَ جِسمٌ، وكذا العقل، وأنَّ كلَّ شيءٍ يَفْنَى عند النفخة
الأولى فلا يبقى إلَّا الله، وأنَّ الله يخلقها بعد فنائها.
لازم وجود الجسم في هذه النشأة ما يشغل حيِّزًا من الفراغ، أمَّا حقيقته أنَّه الشيء الذي له مادة؛ أيْ له شيءٌ يَمُدُّه، لذلك قالوا جِسمٌ وجِسمِّيٌّ للتفريق، والجِسميُّ هو مادة الجسم، لذلك الروح والعقل أجسام، وهذا لا يعني بالضرورة أنَّ لها أبعادًا ثلاثة، ولكنْ بالضرورة لها جهة إمداد، وهذا ما نقصده في العقيدة وعلم الكلام من المادة، وقوله: "يفنى" دليلٌ قاطعٌ على أنَّ المُراد بالجسم ليس المادة التي في علم الفيزياء لأنَّ الأجسام المقصودة في الفيزياء لا تفنى، فالمراد أمرٌ آخر لأنَّ الفناء هنا بمعنى أنَّها تكون عدمًا.
تعليقات
إرسال تعليق