الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال السادس والسبعون
تقريراتٌ مختصرةٌ لدرس سماحة السيِّد محمَّد
السيِّد علي العلوي (حفظه الله)، في كتاب الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة، بقلم
محمود سهلان العكراوي:
المقال السادس والسبعون:
[١٤٥] الرواية الرابعة: وعن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير،
عن عُمَرَ بن أُذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: خَلَقَ الله المشيَّة
بنفسها ثمَّ خَلَقَ الأشياء بالمشيَّة.
هذه الرواية وَصَفَهَا بعض العلماء بأنَّها
من الأسرار التي يعجز الإنسان عن كشف اللثام عنها، وبعضهم حرَّم الكلام فيها لأنَّها
تتعلق بالذات، وبعضهم أقرَّ بذلك ولم يمنع محاولة الكلام فيها بشرط أنْ لا يُتحدَّث
فيما لا يجوز، والوجه في ذلك أنَّ المشيئة إذا كانت مخلوقة، فخلقها يحتاج إلى
مشيئةٍ فنقع في التسلسل.
وقد ورد في بعض الروايات أنَّ المشيئة هي نفس
الفعل، فإذا فعل الله تعالى فعلًا فنفس هذا الفعل هو مشيئته، فلا تُقاس على مشيئة
الإنسان، وقد ورد في بعض الزيارات: (نحن محالُّ مشيِّة الله)، ولم يَردْ عنهم:
(نحن مشيَّة الله). فمن بعض التوجيهات التي توافق بعض البحوث الكلامية والفلسفية
أنَّ هذه المشيئة المخلوقة والمُودَعة في أهل البيت (عليهم السلام) هي التي خُلِقت
الأشياء بها.
الإرادة هي الاختيار والقدرة على الترك،
والأفعال الاختيارية كاشفةٌ عن إرادة الإنسان.
ننظر في جواب الإمام الكاظم (عليه السلام) في
الرواية التي مرَّت -وهي الثالثة من هذا الباب- عن صفوان بن يحيى، وقد قال: "الإرادة
من الخَلقِ الضمير، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل"، فالإنسان يَتصوَّر
ثمَّ يُصدِّق ثمَّ يَفعل، فالإرادة عنده تدرجية، أمَّا في الله تعالى قال: "وأمَّا
من الله فإرادته إِحداثه لا غير ذلك" فالله تعالى إرادته الإحداث لا غير،
ولا تدرُّج فيها، ففعله هو العِلم.
ستمر علينا فيما يأتي روايةٌ تقول أنَّ
الإرادة والمشيئة اسمان لأمرٍ واحد، فلاحظ.
إذن وَصفُ الله تعالى في مقام الذات بأنَّه مُريدٌ
يكون بمعنى أنَّه مختار، ووَصفُه في مقام الفعل يكون بمعنى أنَّه مُوجِدٌ ومُحدِث،
فالحديث عن إرادة الله يقع في مقامين، مرةً في مقام الذات وأخرى في مقام الفعل.
نقلًا عن بعض العلماء بتصرُّف:
ثمَّ إنَّ ما يمكن تصوره بالنسبة إلى الفعل
الصادر عن الفاعل هو إحدى الصور الأربع التالية:
الأولى: أنْ يكون الفاعل فاقدًا للعلم، يفعل
لا عن علم، وهو لا يجوز على الله تعالى.
الثانية: أنْ يكون الفاعل عالمًا فاقدًا
للإرادة، يعلم ولكنَّه فاقدٌ إمَّا لإرادة الاختيار أو لإرادة الفعل، وهذا لا يجوز
على الله سبحانه وتعالى.
الثالثة: أنْ يكون الفاعل عالمًا ومُريدًا
ولكنْ عن كراهةٍ لفعله، وذلك لأجل وجود قدرةٍ قاهرةٍ عليه مثلا، وهذا لا يجري على
الله سبحانه وتعالى أيضا.
الرابعة: أنْ يكون الفاعل عالمًا ومُريدًا
وراضيًا بفعله، وفاعلية الباري سبحانه وتعالى تكون من هذا النوع، فهو فاعلٌ عالمٌ
مُريدٌ مالكٌ لزمام فعله وعمله.
الفرق بين الإرادة والمشيئة:
أمَّا بالنسبة إلى الله تعالى فالظاهر أنَّ
الإرادة والمشيئة متَّحدان في المعنى رغم اختلاف التسمية، استنادًا لقول الإمام
الرضا (عليه السلام): "أنَّ الإبداعَ والمشيئةَ والإرادةَ معناها واحدٌ
وأسماؤها ثلاثة".
كيف نتعامل مع ما قاله الإمام الرضا (عليه
السلام)؟
في الواقع أمامنا احتمالان: الأول أنَّها أمرٌ
واحدٌ من جميع الجهات ولا فرق بينها مطلقا، والأسماء متعدِّدةٌ فقط، والثاني أنَّها
أمرٌ واحدٌ من جهة، وأسماؤها متعدِّدة، وتعدَّدت الأسماء للاختلاف في جهاتٍ أخرى،
فنسأل هل هذا خلاف الظاهر؟ الجواب أنَّه ليس خلاف الظاهر لكنَّه خلاف الفهم الأوَّل
لهذا النص، فلاختيار الاحتمال الثاني نحتاج إلى نصوصٍ أخرى، وهذه النصوص موجودة،
فتُوجَد بعض النصوص التي تفسر الرواية بخلاف تفسيرها للمشيئة، ولكنْ هل هذه
التفاسير تكشف عن الاختلاف بينهما، أو أنَّها تتحدَّث عنهما مرةً من جهةٍ ومرةً من
جهةٍ أخرى، فتُطلِق في أحد المقامات اسمًا وفي المقام الآخر اسمًا آخر؟ بمعنى أنَّها
واحدةٌ من جميع الجهات، لكنَّ المعصوم يتحدث عن جهةٍ واستعمل في أحد النصوص لفظة
(إرادة) وفي نصٍّ آخر استعمل لفظة (مشيئة)، فيبقى كلام الإمام الرضا (عليه السلام)
كما هو، والاختلاف في الأسماء يكون لسبب الاختلاف في البيان فقط، ولو أردنا الوقوف
على حدود المسألة فإنَّنا نحتاج إلى بحثٍ في الإرادة والمشيئة.
ويُوجَد تفسيرٌ آخر للإرادة والمشيئة، وهي أنَّ
الإرادة هي أمر الله تعالى، وإنَّما أمره إذا أراد شيئًا أنْ يقول للشيء كُن
فيكون، أمَّا المشيئة فتعني أنَّ الله تعالى قادرٌ على منع العباد عمَّا يريدون
فعله وهم غير قاهرون لله تعالى، بمعنى أنَّ إرادتهم غير خارجةٍ عن القدرة الإلهية،
وهذه هي المشيئة.
عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، قال: "إنَّ
لله إرادتين ومشيئتين، إرادة حَتْمٍ وإرادة عَزْم، يَنْهَى وهو يشاء ويأمر وهو
يشاء، أَوَمَا رأيتَ الله نَهَى آدم (عليه السلام) وزوجته أنْ يأكلا من الشجرة وهو
شاء ذلك، إذ لو لم يشأْ لم يأكلا، ولو أكلا لغَلَبَتْ مشيئتهما مشيئة الله تعالى،
وأمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح ابنه وشاء أنْ لا يَذْبَحَه، ولو لم يشأْ ألَّا
يذبحه لغَلَبَتْ مشيئة إبراهيم (عليه السلام) مشيئة الله عزَّ وجل".
ومِثل هذا نجده في حياتنا، فنُهيِّئ كل
المقدمات لتحقيق أمرٍ ما لكنَّنا لا نتمكن منه، مع احتمال تقصيرنا في تحقيق
المقدمات، وقد يكون الله أراد لنا ذلك.
فائدة:
لو واجهتنا مِثل هذه الحالة، كما لو سعينا في
تحقيق أمرٍ ولم نتمكن منه، ولا نعلم إنْ كان بسبب تقصيرنا في المقدمات أم أنَّ
الله أراد لنا ذلك، فممَّا ينفع في مثل هذه الأمور طلب الإلهام من الله تعالى، عن
طريق الدعاء والاستخارة وغيرها من الأعمال، مع الإصرار عليها، ومن أفضلها صلاة
الاستخارة الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).
في أحد التوجيهات للرواية قال بعضهم أنَّ
الحديث في الرواية محلِّ الكلام إنَّما هو في مشيئة الإنسان لا مشيئة الله تعالى.
[١٤٦] الرواية الخامسة: وعن عِدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن
خالد، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن ابن أُذينة، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي عبد
الله (عليه السلام)، قال: المشيَّة مُحْدَثَةٌ.
الكلام في هذه الرواية كسابقتها.
تعليقات
إرسال تعليق