بريدي الإلكتروني (٢) كُفوا عن طرق المسامير..


بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تتأمل المرأة كثيرًا أن تعيش حياةً سعيدةً مع رجلٍ يحبها ويمنحها الشعور بالأمان والاطمئنان، يحتضنها ويحتضن كل آمالها، وتصنع معه سعادتها، وهكذا كان حال مريم كأيِّ فتاةٍ تحلم بذلك الزوج الذي يمنحها كل ذلك، وما إن تخرجت من الثانوية حتى تقدم لها أكثر من شاب، وما أسرع أن اجتمعت بزوجٍ اعتقدت أنه هو..

نعم.. اعتقدت أن هذا الرجل هو الذي سينتشلها من معاناةٍ كبيرةٍ عاشتها منذ طفولتها، حيث الفقر المادي، وأشد منه الفقر الروحي والعاطفي، حيث فقدت حنان الأم حتى وهي معها.. وكانت تأمل أن هذا الرجل سيكون الشخص المناسب، ومنذ الفترة التي سبقت الخطبة بأيامٍ تعلَّقت به كثيرا، وكأنه طوق النجاة الذي كانت تبحث عنه، وتنازلت عن الكثير مما تطلبه الفتاة لزواجها ولم تكترث لذلك..

تم العقد سريعًا وأملُ الحب والمودة يشغل بالها وبال زوجها أحمد، وانتقلت لبيت الزوجية مباشرةً دون قضاء فترة خطوبةٍ يتعرَّفان فيها على بعضهما جيدا، وبدأت حياتها بسعادةٍ بالغةٍ جدا، كانت ملفتةً لكل من جالسها أو تحدث معها، ما أفرح أهلها كثيرا، لكن لحظةً واحدةً كفيلةٌ بتغيير كل شيءٍ بأي علاقةٍ نتصورها، وهذا ما حدث لمريم فعلا..

بعد أيامٍ قليلةٍ بدأ أحمد يعاتبها على أمرٍ ما، ويشدِّد عليها العتاب، وبدأ بالابتعاد عنها شيئًا فشيئا، حتى أنه بات لا ينام بجوارها، علاوةً على كونه منشغلًا طوال النهار بعمله، ثم بالخروج مع أصحابه، وكأنها جزءٌ من أثاث غرفته لا أكثر، لا لشيءٍ واضح، فقط لأنه اشتبه بأمرٍ ما وظل حبيس شكوكه، هذا كل ما في الأمر..

حاولتْ مريم أن تشرح له الأمر، وتوضح له كل ما جرى، وعادت به لحياتها منذ الطفولة حتى زواجها منه، وأبدت استعدادها تمامًا لتأدية كل ما يريد كي تزول شكوكه وظنونه، لكن الشيطان قد تمكَّن من عقله وقلبه، ولم يتمكن من الاستماع إليها أبدا.. نعم هذا هو الرجل الذي ملأ قلبها أملًا مذ جلستْ معه في مقابلةِ ما قبل الزواج المتعارفة، هو الشخص الذي نزلت دموعه عندما قدَّمت له ما قدمت من تنازلاتٍ كي يتم زواجهما، وهو الإنسان الذي جعلته يتعجَّب من طموحاتها وآمالها حد البكاء، وهو ذاته الإنسان الذي استسلم لسلطنة الشيطان، ولظلمة الشكوك والظنون والأوهام، إنه أحمد..

لم يكتمل الأسبوع الثالث بعدُ حتى طلب منها أن تجمع أغراضها وتنتقل إلى بيت أهلها، ولعلها كانت تلتقط بعض أجزاء قطعٍ تناثرت من قلبها وسط عشِّ الحب الذي تخيلته في أحلام يقظتها، وبحر دموعٍ امتزج مالحه بعذبه، حتى تساويا، فدموع فرح الليالي والأيام الأولى امتزجت بدموع حزن الأيام التالية، وما إن حزمت حقائبها وجمعت ذكرياتها حتى أرسلها لبيت أهلها رغمًا عنها، قائلًا لها: (اذهبي لأهلك وسأزوركم وأتحدث إليهم)..

ظلت الأفكار تتزاحم في عقلها، لتسرق منها ما تبقَّى من ابتسامة، ولِيَلتهَم السواد حدود عينيها، ولتشق الدموع لها خندقًا بجانبي أنفها..

ماذا سيفعل حبيبي أحمد؟! هل سيعاتب أهلي ثم أعود معه؟ هل يريد أن يطلب منهم نُصحي فقط؟ وعلى ماذا؟ ماذا فعلت لأستحق هذا؟؟ آه.. يا لغفلتي.. هل سيطلقني؟! هل ينتهي هنا حلمي؟!

هكذا ظلت حبيسة غرفتها، والأسئلة تتوارد في ذهنها، تارةً من نفسها، وأخرى من والديها، ومرةً من أخواتها، ومرَّاتٍ من إخوتها، فأي حالةٍ تلك التي كانت تعيشها بنتٌ في مقتبل عمرها..!؟

مرت الأيام ثقيلةً جدا، والانتظار المر تحيط به كل أسئلة الوجود، فكيف لبنتٍ عاشت حلمًا ورديًا كهذا، ثم تصطدم بكابوسٍ قاتمٍ مِلؤه السواد أن ترتاح، وهي لا تعرف أي شيءٍ عن مصيرها القادم، مستقبلها الذي صار بيد رجلٍ استسلم بكل سهولةٍ لأول شكوكه وظنونه بعروسته التي ضحَّت بكل ما يمكنها أن تضحي به لتكون معه.. ولكنها لا تستطيع فعل شيءٍ سوى الانتظار العصيب..

بعد أن عادت مريم إلى منزلها جرى في اليوم التالي اتصالٌ بين زوجها أحمد وأخيها عيسى، أبدى فيه أحمد انزعاجه من مريم، وطلب أن يزور منزلهم ويجلس معهم بعد أسبوع، وافق عيسى على ذلك على مضضٍ اضطرارًا لمصلحة أخته، حيث قد علم مسبقًا منها بما جرى بكل تفاصيله، وقد أخبر والده بتفاصيل المكالمة، والذي وافق بدوره وقلبه يتمزق لحال ابنته الصغيرة، فهو رجلٌ بلغ ما بلغ من العمر، وهي آخر العنقود من شجرةٍ طيبة..

جاء اليوم الموعود، والبنت تنتظر بلهفةٍ ما سيؤول إليه أمرها، ونسمات دعائها تتعالى مع كل نفسٍ تتنفسه، فكانت ما بين شهيقٍ يمزق أحشاءها وزفيرٍ ترتفع معه حرارة دعائها، ولا تنظر إلا لربها الواحد القهار.. ذهب زوجها ومُرافقه من حيث أتيا، وخرج إخوتها من غرفة الجلوس والألم يعتريهم، والغضب قد أحال تلك الوجوه إلى اللون الأحمر، وقطع عبد الله صمت الجميع حين قال: (إنه يريد أن يطلقها)..

أما مريم فكانت في غرفتها، وكعادته ذهب أخوها الأقرب لقلبها عبد الله ليتحدث إليها، وما إن أخبرها بقرار زوجها حتى سالت دموعها وبدأت بالبكاء واحتضنت أخيها بكل قوة، وكأن أملها بالحياة قد ارتحل، وأن لحظات عمرها قد أزفت، وحان وقت الانتقال من عالمٍ إلى آخر..

منذ تلك اللحظات والأسئلة واللوم تتقاطر عليها من أهلها، فتلك أمها تلومها لأنها فعلت كذا ولم تفعل كذا، وتُحقّق معها في كل حين، وذاك أخوها يطرح عليها الأسئلة ليتأكد مما قاله زوجها، لعله كان صادقا، وهكذا ظلت المسامير تنفذ إلى صدرها في كل حين..

ويحدث كثيرًا أن تسمع حوارًا بين فردين أو أكثر من عائلتها، يتساءل بعضهم: من الذي سيقبل بها الآن؟ من الذي سيتزوجها؟ من يا ترى إلا أن يكون فاسقًا شاربًا للخمور لا يقبله أحد؟ أو أن يكون كبيرًا في السن؟ كيف ستكون سمعتها بين الناس؟ هل سينسى الناس أن زوجها قرر الانفصال عنها بعد أقل من شهر؟

وأنا أقول: ما ذنبها؟ ماذا فعلت لتفعلوا بها ما تفعلون؟ كيف تُحمِّلونها ذنب غيرها؟ ومن قال أنها لن تتزوج؟ ومن قال أن الرجال الصالحين سيرفضون جوهرةً مثلها؟

إن ما حدث لا يعدو كونه ظلمًا وقع عليها، فكفوا عن زرع المسامير في صدرها، إن قوة مريم وصلابتها وهي في هذا السن ستتغلب على كل شيء، إن طموحاتها وأهدافها ستقلب الصورة في مخيلة الجميع عندما تحققها قريبا، عندما يُذاع اسمها تحت إنجازاتها عما قريب.

لا أعلم كيف لأهل فتاةٍ جرى عليها هذا الظلم، أن يبتعدوا عنها، ويلومونها، ويساهمون في مظلوميتها، والأجدر بهم والأجدى أن يحتضنوها، وأن يخففوا عنها، وأن يزرعوا إحساس الثقة بداخلها، وأن ينظروا لمستقبلها، فإن الطلاق لا يعني نهاية حياة الفتاة، بل قد يكون بدايةً لحياةٍ جديدة..

آسفةٌ إن كنت قد أثقلت عليك بقصة أختي المؤلمة، لكن هذا هو الواقع الذي تعيشه اليوم، وتقبع تحت سطوته الكثير من النساء، فيبقينَ بين سندان الطلاق ومطرقة اللوم والكلمات، فتعتصر الآلام ما تبقى من حياتهن، وتلك نسبةٌ قليلةٌ من بين كل أولئك التي تحظى بحياةٍ أفضل، وباحتضانٍ عائليٍّ كبيرٍ يجعلها تشعر بأن قيمتها العالية هي هي، ولم تتغير بسبب حادثةٍ هنا، أو قضيةٍ هناك، فكفوا عن طرق المسامير في قلب مريم ونظيراتها..

مع خالص تحياتي ودعائي
أم بنين


* ملاحظة: نُشِر هذا المقال على مدونة ارتقاء سابقا.


محمود سهلان

٢١ نوفمبر ٢٠١٦م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون