بريدي الإلكتروني (٩) وردةٌ كسيرةٌ



بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أنا بذرةٌ بذَرها والداي، وغذَّياها، فخرجت على الدنيا وردةً جميلةً تسرُّ مَن ينظر إليها، ويستعذب ريحها كل من يستنشقه، إلا والداي، فلم يعدلا معي كما فعلا مع إخوتي الثلاثة، رغم أنني كنت البنت الوحيدة، وآخر العنقود كما يعبرون..!!

بلغت الخامسة عشر من عمري، لكن كلَّ لحظاتي كانت ذابلة، كيف لا وقد حُرِمت من كلِّ العطف والحنان والحب، كيف لا وقد كنت ولا أزال آخر اهتماماتهما، وها أنا أعلن أنني تعبت من حياتي وأنا مهمَّشة، حتى صار أفضل أحلامي وأكثرها راحةً لي أنْ يقطفني الموت، ليزرعني بذرةً جديدةً ولكن تحت التراب..

تهميشي أمام جميع أفراد الأسرة هشَّمني، والظلم والتفرقة والإهانات فتكت بي، بل حتى أنني أتعرض للضرب أحيانا، لا لشيءٍ صدِّقني، فقط لم أُطِع أخي الأكبر مني بعامين مرَّةً واحدةً من عشرات الطلبات! بل دون أي سببٍ أتعرض للإهانات والكلام الجارح من الجميع بهذا المنزل الكئيب..

يعلم الله أنني أحبُّ إخوتي الثلاثة حبًّا كبيرا، لكنني سأسرد لك بعض ما يحدث لعلك تعي ما أريد قوله..

عندما تريد أمي أنْ تجهِّز الطعام لأي وجبةٍ كانت، فإما أنها تطهو الطعام حسب مزاجها أو أنها تستشير الجميع إنْ كانوا يرغبون في وجبة طعامٍ معينة، وتأخذ بما يشيرون به إلا أنا، حتى أنني أطلب منها وجباتٍ معينةٍ أحيانًا لكنها تنهرني وترفض طلبي، بل أنني بعد أنْ كبرت أحاول أنْ أُعدَّ لنفسي ما أحب من طعام وشراب، لكنها لا تقبل أبدا، ويتوجَّب عليَّ أنْ آكل ما يرغب به غيري!!

عندما كبر إخوتي وانضموا للمدرسة خصَّص لهم والدي مصروفًا واحدا، وهو مبلغ دينارٍ واحدٍ كلَّ يوم، إلا أنا فمصروفي هو نصف دينار، علما أنَّ والدي مقتدرٌ ماديًا ولا يضره شيئًا أنْ يعطيني مصروفًا مساويًا لإخوتي، كما أنه يمنح إخوتي مصروفًا شهريًّا جيدًا لا أحصل إلا على خُمسه، ومع الغلاء الفاحش بأسواقنا، فإنَّ هذا المبلغ لا يساوي شيئا، حتى أضطر لإدخار جزءٍ من مصروف المدرسة لأشتري حاجياتي الضرورية فقط.

الأكثر إيلامًا لي هو التفضيل الواضح والجلي لإخوتي عاطفيا، فلا يتأخر أبي ولا تتأخر أمي عن تغذيتهم عاطفةً وحبًّا وحنانا، حتى بِتُّ أتضور جوعًا لأنْ يحتضنني أحدهما أو يقبلني، أو أنْ أسمع كلمةً تلامس مشاعري، لكن شيئًا من ذلك لا يحدث..

تصور معي أنْ طفلةً فقدت كلَّ الحنان، وكلَّ العاطفة، وكلَّ الدفئ من والديها، ولا يوجد من يحنو عليها، كيف سيكون حالها يا ترى؟

صرت أنجح بالمدرسة لكن معدلات نجاحي منخفضةٌ جدا، لا أجد نفسي قادرةً على العطاء، ولا أتمكن من فعل شيء، وكأنني مكبَّلة اليدين، أو أنْ قلبي لا ينبض، وأنفاسي تتقطَّع، وعقلي قد أقفل على نفسه، فكلُّ ما أستطيعه هو الخدمة بالمنزل يا سيدي، وإطاعة الأوامر غير القابلة للرفض أبدا، وكأنني كنت الفرصة للجميع ليلقوا بأثقالهم كلِّها علي، حيث كنت الحلقة الأضعف كما هو واضح، لكن مِن صناعتهم، ليس ضعفًا مني، فما كان بيدي يا ترى ولم أفعله؟!

بعد كلِّ السهر والآلام، بعد كلِّ الحزن والدموع، بعد كلِّ الغصَّات وحيدةً على فراشي الذي اعتاد على أنْ يتغذَّى من مدامعي، حانت لحظة ابتسامة، وظهر شعاع نورٍ بقلب السماء المظلمة، نعم أخي الأكبر زهير طلب أنْ أخرج معه لنجلس بجانب البحر، لأنه يريد أنْ يتحدَّث معي في أمرٍ مهم، ولم أرفض طلبه كالعادة، لكنه يدعوني للخروج معه للمرة الأولى!!

خرجنا بعد ليلتين من طلبه، وذهبنا لتناول وجبة العشاء بأحد المطاعم الفاخرة، ثم جلسنا معًا بجانب البحر، ولم يتأخر كثيرًا حتى باح بمكنون صدره:
أعلم يا أختي بكلِّ معاناتك، رغم أنك تُخفين آلامك ومدامعك عنا، ولا أعلم لأي حدٍّ انتبه أخواي ووالداي لذلك، لكنني متأكدٌ مما أقول، فأنتِ تتعرضين لظلمٍ كبيرٍ منذ ولادتك، دون أي سببٍ منطقي، بل على العكس تماما، كونك البنت الوحيدة والأصغر سنًّا كان من المتوقع أنْ تعيشي في دلال، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، وها أنتِ تعانين حتى لحظتنا هذه، طلبتُ أنْ نتحدث لوحدنا كي أخبرك أنني أعلم كلَّ هذا، وأنني كنتُ مقصرًا كغيري، وأنا هنا لأقف لجانبك وآخذ بيدك، والآن تفضلي بوحي بما يختزنه صدرك لأخيك..

ترقرقت عيناي بالدموع، بين دموع فرحٍ وحزن، فرحتُ جدًّا لأنني لأول مرةٍ أشعر أنَّ أحدًا من أفراد عائلتي يهتم لأمري، وشعرت حينها بأمانٍ لم أتعرَّف عليه طوال حياتي، ودموع حزنٍ لأنَّ كلَّ الذكريات المُرة خطرت بذهني دفعةً واحدة، لكنني لم أتمالك نفسي، فلم أنتبه إلا وأنا أُقبِّلُ رأس أخي وأحتضنه بشدة، وكأنني لا أريد تركه، فقد تفتحت أبواب الأمل أمام ناظري بكلماته.. آهٍ أين كنت عني يا أخي الحبيب؟!

هدأتُ قليلًا وبدأت أبعث معاناتي من قلبي لقلب أخي، الذي وجدتُ الانكسار باديًا على وجهه، حتى اضطررت للتأكيد أنني أُحبُّهم جميعًا رغم كلِّ ما حدث لي، وأنني لا أحمل ذرَّة حقدٍ عليهم، ما جعل الارتياح يبدو على ملامحه، والعرق الذي تصبَّبَ خجلًا يجف من على قسمات وجهه المشرق، وما إنْ أَنهيتُ كلامي حتى قام أخي وأمسك بيدي وقبلني فوق رأسي، ثم وَعدني بأنه سيقف إلى جانبي من هذه اللحظة ولن يتركني أبدا.

لقد صار أخي زهير هو المنقذ لزينب، التي بدأت تنمو وتكبر مجددا، وبدأت روحها المرحة تظهر، وبدأ نور وجهها يملأ المنزل جمالا، وانطلقت إبداعاتها ومواهبها بقوة، وتحسنت نتائجها بالمدرسة كثيرا، والسرُّ كله هو الغذاء الذي يغذيها إياه زهير، والأمان والاطمئنان اللذين بثَّهما بصدرها، فما لبثت كثيرا، حتى ظهرت شخصيتها الرائعة، التي كانت مكبوتةً بفعل غيرها.

لا أُخفيك سرًّا أنني بتُ أزاول هوايتي في الرسم كلَّ يومٍ بكلِّ شغفٍ وارتياح، وأسعى لأنْ أطور نفسي، وأنْ يكون لي معرضًا خاصًّا للوحاتي بالمستقبل.

مع هذه التغيرات والاهتمام المتزايد من الابن الأكبر -ولي العهد- بدأتُ أجذبُ اهتمام الجميع تلقائيا، كيف لا وشخصية زهير بمنزلنا وخارجها يُشارُ لها بالبنان، ففرض نفسه بكلِّ صفاته الرائعة، فأكسبني كثيرًا بشخصيته، فلم يعد هناك أي مجالٍ لتجاهلي وظلمي، ورحت أبادل الجميع المحبة والعطاء، وبت ألعب دورًا أكبر في رعاية أهلي رغم أني أصغرهم سنا.

همسة: لكلِّ أب، ولكلِّ أم، ولكلِّ أخ، ولكلِّ أخت، إيَّاكم والتفرقة بين الإخوة والأخوات، إيَّاكم وحرمانهم من العاطفة والحنان، إيَّاكم وإشعارهم بفقدان الأمان.. لا تتجاهلوا كلَّ ذلك، فإنَّ نتائجه كارثيةٌ على الولد والبنت، وعلى الأسرة، وعلى المجتمع..

الوردة المنتعشة

زينب

محمود سهلان
٥ فبراير ٢٠١٧م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون