الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال التاسع والثلاثون

 


تقريراتٌ مختصرةٌ لدرس سماحة السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي (حفظه الله)، في كتاب الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة، بقلم محمود سهلان العكراوي:

 

المقال التاسع والثلاثون:

 

نؤكِّد أن العاقل هو الذي يميِّز بين حفظ المقام والنقاش العلمي والنقد، بما لا يؤثر في المقام. فإن قلنا أن الشيخ الصدوق شيخ المحدِّثين، وأنه ممَّن أكثرَ عن علمٍ التصنيف والتحبير في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، فالفائدة من ذلك أن نعرف مقام الرجل أولا، ثم أننا عندما نرى شيئًا لسنا على وفاقٍ معه فيه نحذر في توجيه النقد، ونحاول ما استطعنا أن نُخرِّج كلامه بما يُخرِجُه عن حدِّ الإشكال ثانيا، لأن هذا ما يقتضيه مقام الشيخ الصدوق، وإن لم نجد ما نوجِّه به كلامه في أحد الموارد ننتقد الكلام ونُشكِل ولا يتجاوز الإشكال حدَّه، فإن تجاوزنا بمقدار شعرةٍ واحدةٍ دخلنا في حيِّز الفجور وهذا لا يجوز. فلا بد أن نحتفظ بمقامات أصحاب الجهود.

يُوجد لدينا كُتبٌ كثيرةٌ في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) كتبها الشيخ الصدوق، وربما كان أكثرَ من كَتب في هذا المجال، ولذلك يُسمَّى بشيخ المُحدِّثين.

 

فمَنْ هو الشيخ الصدوق؟

 

نبدأ بما قاله الشيخ النجاشي (رضوان الله عليه):

قال: "محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه أبو جعفر، نزيل الرَّي، شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان، وكان وَرَدَ بغداد سنة خمسٍ وخمسين وثلاثمائة، وسَمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن، وله كتبٌ كثيرةٌ ...". إلى أن قال: "أخبرني بجميع كُتبه وقرأت بعضها على والدي عليِّ بن أحمد بن العباس النجاشي (رحمه الله) وقال لي: أجازني جميع كتبه لمَّا سمعنا منه ببغداد، ومات (رضي الله عنه) بالرَّيِّ سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة". ]رجال النجاشي - ص٣٢٩ - ت: ١٠٤٩[.

ويُعبَّر عنه بالصدوق الثاني، أمَّا الصدوق الأول فهو والده علي بن الحسين، وذكر أنه نزيل الري، ومثل هذه الأمور تُذكَر عادةً للتمييز، ثم وَصَفه بأوصافٍ عالية. وقد صار وجهًا من وجوه الطائفة بعد انتشار كتبه، وكان كثير السفر ومنها ما ذكره من سفره إلى بغداد، أما سماع شيوخ الطائفة منه مع كونه حدث السن، فدليلٌ على وثاقته في الرواية، فلا يُسمَع من حدث السِّنِّ عادة، والذين سمعوا منه هم شيوخ الرواية، وهو المراد من قوله شيوخ، وليس المراد هم العلماء مطلقا.

وتتميَّز إجازة الرواية عن غيرها من إجازات الكتب، والإجازة في الكُتب غير الروايات ليست طريقتنا، فإذا أجازه بجميع كُتبه فهي إجازةٌ في كتب رواية، وإن تضمَّنت آراء الشيخ الصدوق، فيجوز للمُجاز أن يروي آراء المُجيز فهو مُجازٌ ضمنًا في ضمن الإجازة في الرواية.

 

الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) في الفهرست:

قال: "محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، جليل القدر، يُكنَّى أبا جعفر، كان جليلا، حافظًا للأحاديث، بصيرًا بالرجال، ناقدًا للأخبار، لم يُرَ في القُمِّيين مثله في حفظه وكثرة علمه.

له نحوٌ من ثلاثمائة مُصنَّف، وفِهرست كتبه معروف ... إلى أن قال: أخبرنا بجميع كتبه ورواياته جماعةٌ من أصحابنا، منهم الشيخ المفيد والحسين بن عبيد الله وأبو الحسين جعفر بن الحسن بن حسكة القمِّي وأبو زكريا محمَّد بن سليمان الحمراني كلُّهم، عنه". ]الفهرست - ص٢٣٧ - ت: ٧١٠[.

الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق والشيخ المفيد ووالد الشيخ النجاشي كانوا متعاصرين، والكتاب ]الفهرست[ عبارةٌ عن جمعٍ لكتب العلماء وفهرستها، وكتبه لأنَّه لم يجد كتابًا يفي بغرض جمع وتدوين كتابٍ حاوٍ لمصنفات وكتب الشيعة، ومع ذكره لشطرٍ من حياة وسيرة المؤلِّف فإنه يريد أن يقول أنني لا أذكر كتب أيَّ رجل، والشيخ صاحب كتبٍ روائيةٍ فإذا ذَكر كلمةً فهو يعنيها، مع أخذ المعاصرة بعين الاعتبار.

أما قوله (حافظًا للأحاديث) فهو يحتمل وجهين: الأول: الحِفظ عن ظهر قلب. والثاني: حفظ الأحاديث في الكتب، وهما وجهان صحيحان. وقوله (بصيرًا بالرجال) تُفيدنا أنه إذا روى عن ضعيفٍ لا لغفلةٍ منه، أو لأنه يجهل أحوال الرجال. وقوله (ناقدًا للأخبار) فيفيد أنه كان قادرًا على تمييز الجيِّد من الأخبار عن غيره ويعمل بذلك، بالإضافة لذلك فإن الشيخ يُثبِت المميِّزات المذكورة للشيخ الصدوق على اعتبار أنها من شرائط المُحدِّث، ويُثبِتها لنفسه، فهو كذلك حائزٌ على هذه الصفات لأنه ينبغي أن يكون حائزًا عليها إذا أراد أن يصف أحدًا يعمل في نفس مجاله وهي الأحاديث بها، وليس هو مجرد ادِّعاء.

إضافةً لما مرَّ عندما تقرأ مُصنَّفات الشيخ الصدوق تعرف قيمته ومقامه العلمي، وإن كانت أكثر كتبه لم تصل إلينا.

 

ولادته بدعاء الإمام المهدي (عليه السلام):

نقل السيِّد الخوئي في المعجم: "وروى الشيخ عن جماعة، عن أبي جعفرٍ محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه، وأبي عبد الله الحسين بن عليٍّ أخيه، قالا: حدَّثنا أبو جعفر محمَّد بن عليٍّ الأسود (رحمه الله)، قال: سألني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه (رضي الله عنه) بعد موت محمَّد بن عثمان العمري (قدس سره)، أن أسأل أبا القاسم الرَوحي (قدس الله روحه) أن يسأل مولانا صاحب الزمان (عليه السلام)، أن يدعو الله أن يرزقه ولدًا ذكرا، قال: فسألته، فأنهى ذلك، ثم أخبرني بعد ذلك بثلاثة أيام، أنه قد دعا لعلي بن الحسين (رحمه الله) فإنه سيُولد له ولدٌ مباركٌ ينفع الله به، وبعده أولاد". ]المعجم – ج١٧ - ص٣٤٥ - ت: ١١٣١٩[.

ثم نَقلَ روايةً أخرى عن الشيخ، قال: "قال ابن نوح: وحدَّثني أبو عبد الله الحسين بن محمَّد بن سورة القمي (رحمه الله) حين قَدِم علينا حاجًّا، قال: حدَّثني علي بن الحسين بن يوسف الصايغ القمي، ومحمَّد بن أحمد بن محمَّد الصيرفي، المعروف بابن الدلال وغيرهما من مشايخ أهل قم، أن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه كانت تحته بنت عمِّه محمَّد بن موسى بن بابويه، فلم يُرزَق منها ولدا، فكتب إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) أن يسأل الحضرة أن يدعو الله أن يرزقه أولادًا فقهاء، فجاء الجواب إنك لا ترزق عن هذه، وستملك جاريةً ديلميةً وترزق منها ولدين فقيهين"، ثم قال: "أقول: ويظهر من الرواية الأخيرة أن قصة ولادة محمَّد بن علي بن الحسين بدعاء الإمام (عليه السلام) أمرٌ مستفيضٌ معروفٌ مُتسالمٌ عليه، ويكفي هذا في جلالة شأنه، وعِظم مقامه، كيف لا يكون كذلك وقد أخبر الإمام (عليه السلام) أن والده يُرزق ولدين ذكرين خيِّرين ...". ]المعجم - ج١٧ - ص٣٤٥-٣٤٦ - ت: ١١٣١٩[.

 

فائدتان:

الأولى: ظهور قوة الجانب العَقَدي في شخصية الشيخ الصدوق الأول.

الثانية: مثل هذه الأمور كأن يُرزق بولدٍ عالم، أو يُختم للولد بما خُتِم للشيخ الصدوق الثاني، ممَّا يحتاج للدعاء والتوسُّل، فالمسألة ليست مسألة علمٍ فقط، لكن النهاية كيف تكون. بل ونستفيد من كلام الإمام توثيق الشيخ الصدوق.

 

تنبيه:

يجب أن ننتبه أن أكثر مَنْ هو معرَّض للخطر هو طالب العلوم الدينية، فإن من شأن العلم تعريضه للغرور، وهذا الاحتمال واردٌ مع كلِّ مسألةٍ يتعلَّمها، فهو في كلِّ يومٍ يُواجه هذا الخطر المُحدِق. ودونكم قصة بلعم بن باعورا والشلمغاني وأمثالهما. ومن مثل قصة ولادة الشيخ الصدوق نتعلَّم اللجوء للإمام (عليه السلام)، فهو باب الله من بعد النبي وآبائه (صلوات الله عليهم).

وبعد كلِّ ما ذكرناه لا نتعجَّب ممَّا وصل إليه الشيخ الصدوق من مرتبةٍ علمية.

 

مشايخه:

الشيخ الثقة الثَبت محمَّد بن الحسن بن الوليد - والده علي بن الحسين فقيهٌ جليل القدر - الشيخ محمَّد بن علي ماجيلويه - الشيخ الأجلُّ محمَّد بن موسى بن المتوكِّل - الشيخ أحمد بن علي بن أحمد بن محمَّد بن عمران الدقَّاق - الشيخ محمَّد بن يحيى العطار.

وقد قيل أن مشايخه يتجاوز عددهم المائتين، وقد ذَكرَ الميرزا النوري مائةً وثمانيةً وتسعين شيخًا له في المستدرك، وقد كان اتصاله بمشايخ الإجازة محلَّا لاهتمامه كما هو واضح.

وأهمية معرفة مشايخه تكمُن في أن طبيعة الإنسان التأثُّر، والمطلوب أن يتجنَّب الفرد التأثُّر السلبي فقط، ومعرفة مشايخ الصدوق تساعدنا على معرفة مصادر بعض آراء الصدوق، وبعض حيثيات شخصيته، كتأثُّرِه بشيخه محمَّد بن الحسن بن الوليد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون