لا يستغني الناسُ عن الناس
وردت في الروايات الشريفة العديد من القواعد والسلوكيات الاجتماعية المهمة، والتي يمكن للمجتمع المؤمن أن يرتقيَ من خلالها لأعلى مراتب التماسك، وأرفع درجات التقدم، حتى ورد عن آل بيت العصمة (صلوات الله عليهم) ما يتعلَّق ببعض التفاصيل الصغيرة في هذا المجال، أحاول هنا أن أخرجَ ببعضها في عِدَّة مقالاتٍ متفرقة.
في عصر السرعة والتكنولوجيا المتطورة ووسائل
التواصل الالكتروني، غابت الكثير من المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع
المؤمن في بنائه، فشهدنا بعض التراجع على مستوياتٍ متعدِّدة، من أهمها صلة
الأرحام، والتواصل والتلاقي بين المؤمنين، وغيرها من الأمور التي لا يَسَعُنا
ذكرها والتفصيل فيها في هذه المقالة.
مما راجَ على أَلسنة بعض المؤمنين، بل مما
جرت عليه سلوكياتهم، ادعاء الاستغناء عن الناس، وعدم الحاجة إليهم، وهو أمرٌ مخالفٌ
للوجدان قطعا، ويترتَّب عليه سلبياتٌ كثيرة، منها على سبيل المثال عدم الاهتمام بأمور
المؤمنين، وعدم الاكتراث لما يحلُّ بهم من مصائب ومصاعب. في الواقع إما أن يكون
الإنسان اجتماعيًا بالطبع، أو أن الحاجة تدعوه إلى ذلك، وبأيِّ نظريةٍ أخذنا فلا
بدَّ لنا من الناس، ومن مخالطتهم ومعاشرتهم، ومن تبادل الخدمات والتعاطي معهم.
في الكافي الشريف، عن أبي عبد الله الصادق
(عليه السلام)، قال: عَليكُم بالصلاة في المساجد، وحُسنِ الجِوارِ للناس، وإقامةِ
الشهادة، وحُضورِ الجنائز، إنَّه لا بدَّ لكم من الناس، إنَّ أحدًا لا يستغني عن
الناس حَيَاتَه، والناس لا بدَّ لبعضهم من بعض. ]الكليني، الأصول من الكافي، ج٢، كتاب العشرة،
باب ما يجب من المعاشرة، ح١].
هذه الرواية الشريفة تؤكد بشكلٍ قاطعٍ على
حاجةٍ الناس لبعضهم البعض بعدَّة تأكيدات، فلا تترك مجالًا لمن يريد أن يتملَّص من
هذا أو يشكِّك فيه، فحاجة كل إنسانٍ لغيره واضحة، وكذا مسؤولياته معينة، أما تفاصيلها
فهي مذكورةٌ في الشريعة المقدسة، فالمؤمن إذًا مُطالبٌ بالإذعان لهذه الحقيقة أولًا
بعد فهمها، ثم بناء سلوكياته الاجتماعية وفقها، وما ذَكَرتَه الرواية من واجباتٍ
اجتماعيةٍ على المؤمن ليست هي المطلوبة فقط، لكنها من أهم الواجبات الاجتماعية في
الإسلام، ويشهد على أهميتها تكرار ذكرها في رواياتٍ أخرى، ومع ذلك لم تحصر هذه الواجبات
في دائرة المؤمنين فقط، بل جعلتها تشمل دائرة المسلمين الواسعة كما يظهر من بعضها.
عن مُعاويةَ بن وَهْب، قال: قلتُ لأبي عبد
الله (عليه السلام): كيف ينبغي لنا أنْ نصنعَ فيما بينَنَا وبين قومِنَا، وفيما
بينَنَا وبين خُلَطائِنَا من الناس؟ قال: فقال: تُؤدُّونَ الأمانة إليهم، وتُقيمونَ
الشهادة لهم وعليهم، وتَعودونَ مرضاهم، وتَشهدونَ جنائزهم. ]الكليني، الأصول من الكافي، ج٢، كتاب العشرة،
باب ما يجب من المعاشرة، ح٢[.
عن حبيبٍ الخَثْعَمي، قال: سمعتُ أبا عبد
الله (عليه السلام) يقول: عليكم بالورع والاجتهاد، واشهدوا الجنائز، وعودوا
المرضى، واحضروا مع قَومِكم مساجدكم، وأَحبُّوا للناس ما تحبُّون لأنفسكم، أما
يستحي الرجلُ منكم أنْ يعرفَ جارُهُ حقَّهُ ولا يعرِفَ حقَّ جاره. ]الكليني، الأصول من الكافي، ج٢، كتاب العشرة،
باب ما يجب من المعاشرة، ح٣[.
عن مُعاويةَ بن وَهْب، قال: قلتُ له: كيف
ينبغي لنا أنْ نصنعَ فيما بينَنَا وبين قومِنا، وبين خُلطائِنَا من الناس ممَّن
ليسوا على أمرِنا؟ قال: تَنظرونَ إلى أئمَّتكم الذين تَقتدونَ بهم فتَصنعونَ ما يَصنعون،
فوالله إنَّهم ليَعودونَ مرضاهم، ويَشهدونَ جنائِزَهم، ويُقيمونَ الشهادة لهم
وعليهم، ويُؤدُّون الأمانة إليهم. ]الكليني، الأصول من الكافي، ج٢، كتاب العشرة،
باب ما يجب من المعاشرة، ح٤[.
تكرَّر ذِكرُ بعض الأعمال المطلوبة من
المؤمنين، كعيادة المرضى، وحضور الجنائز، والصلاة في المساجد، وإقامة الشهادة،
وحسن الجوار، وأداء الأمانة، والذي لم يذكر في هذه الروايات مما هو مطلوبٌ كثير.
لم نتطرَّق لكل مضامين الروايات لكن لا يخفى
على القارئ الكريم بعضها، كمعرفة حقِّ الجار، والاقتداء بالأئمَّة، والدعوة لأن نُحبَّ
للناس ما نُحبُّ لأنفسنا، وغيرها، فالأساس الذي دفعنا نحو كتابة هذه المقالة هي
قاعدةٌ خالفها بعض المؤمنين فأردنا التنبيه عليها، وهي: "إنَّه لا بدَّ
لكم من الناس، إنَّ أحدًا لا يستغني عن الناس حَيَاتَه".
محمود أحمد سهلان العكراوي
الثلاثاء ١٩ شوال ١٤٤٢هـ
الموافق ١ يونيو ٢٠٢١م
العكر الشرقي – البحرين
تعليقات
إرسال تعليق