الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال التاسع والعشرون

 


تقريراتٌ مختصرةٌ لدرس سماحة السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي (حفظه الله)، في كتاب الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة، بقلم محمود سهلان العكراوي:

 

المقال التاسع والعشرون:

 

لا يزال الكلام في الرواية السابقة:

 

قال (عليه السلام): "وما أنطقَ به ألسُنَ العباد". في شرح المازندراني (رضوان الله عليه) لأصول الكافي، علق الميرزا أبو الحسن الشعراني في الحاشية على الشرح، فقال: "أما ما قاله المازندراني، قال: المراد به اللغات المختلفة الدالة على وجود القادر المختار كما قال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) ]الروم ٢٢]، فجعل الاختلاف في الألسن والألوان آيةً من آياته عزَّ وجل، أو المراد به آلات النطق من العضلات ومخارج الحروف والأصوات، أو المراد به ما نَطَق به العباد الهادين للخلق من الكلام المشتمل على الحكمة البالغة والنصيحة الكاملة التي بها يهتدون إلى طريق الهداية ويجتنَّبون سبيل الضلال". لكننا نختلف مع هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرها المازندراني، أما الشيخ المجلسي (قدس سره) فقد ذكر احتمالين آخرين: "الأول: الاحتجاج باتفاق الأنبياء والأوصياء والعلماء والحكماء بل كافَّة العقلاء على وجود الصانع، فيحصل العلم الضروري بوجوده، والاحتمال الثاني دعاؤهم وتضرُّعهم والتجاؤهم إلى الله تعالى في الشدائد والمِحَن بمقتضى فطرة عقولهم، وهذا يدلُّ على أن عقولهم بصرافتها تشهد بخلقهم ومفزعهم في كلِّ شدائدهم، وهذا الوجه الأخير قويٌّ جدا"، وهو ما نتفق معه.

 

بيانه: الإمام (عليه السلام) قال: "وما أنطقَ به ألسُنَ العباد"، فالفاعل هو الله سبحانه وتعالى، والفاعل الثاني هو الإنسان بفعل الله عزَّ وجل، فعندما أتحدَّث الآن فأنا أنطق ولكن المُنطِق ليس الله تعالى، ربما يكون والعياذ بالله الشيطان، وربما يكون باجتهاداتي الخاصة، فأُخطِئ وأُصيب، ويتفاوت هذا من واحدٍ إلى آخر، ولكن هناك ما ينطق به الإنسان ويكون أمرا واحدا عند الجميع وإن اختلفت الألسن والثقافات والعقليات، فإن هناك مدلولات واحدة تنطق بها الألسن على اختلاف لغاتها وتوجُّهات حَمَلَتها، هذه الالفاظ الدالة على المعنى الواحد يكون المُنْطِق فيها هو الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يدلُّ عليه عزَّ وجل، على اعتبار أن الدافع والمنشأ هي الفطرة السليمة، فجواب الإمام عامٌّ كما في الرواية التالية، ولاحظ أنه ليس هو المتيقِّن كفردٍ بل كل فرد، فعندما تأتي لهذه الأدلة الواضحة القاطعة كجواب الإمام (عليه السلام) في رواية ركوب السفينة مثلا، فمحاولة النجاة في عرض البحر لا يكفي لها عضلاتك وقدراتك، فبماذا تتمسك حينها؟ وهذا الأمل الذي تتمسك به هو الله مهما اختلفت الثقافات واللغات، فمن يمارس شيئًا خلاف الإيمان يُوصف بالجاحد، كما قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم) ]النمل ١٤[، وهذا الجحود ملازمٌ لليقين الذي بداخلهم. هذا الاحتمال الخامس ذكره الشيخ المجلسي واستشهد بمسألة الدعاء والتضرُّع، وقد عمَّمنا الموضوع ليشمل كل ما يتعلق بالله تعالى.

 

قال (عليه السلام): "وما أرسلَ به الرسل". قال بعض الشُّرَّاح أنها الخوارق والمعجزات والكرامات، ولكن لا أرى أن الله تعالى أرسل الرسل بها، فلو آمن الناس بالحُجَّة والبرهان لما احتاج الأنبياء إلى المعجزة أو ما شابه، بل الله تعالى أرسل الرسل برسالةٍ واحدة ودعوةٍ ذات طبيعةٍ واحدةٍ، موضوعها توحيد الله والإيمان بالغيب والتكافل الاجتماعي والإيمان بالرسل، ونحو ذلك، ووجوب الإيمان بباقي الرسالات ليس إلا لأنها ذات طبيعةٍ واحدة، وإن كنتَ مطالبًا بتطبيق شريعتك أنت.

 

تنبيه:

في مسألة الأساطير وما اتُّهم به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وما وقع بعضنا في شِراكه أيضا، نقول: عندما يُقال بأن ما جاء به رسول الله مأخوذٌ من أديان الهند والصين فهي تهمةٌ قديمة، وقد دوَّنها وأثبتها القرآن الكريم، لكن عندما تأتي اليوم بكلمة أساطير الأوَّلين وتعطيها للعلماء الخبراء المختصِّين في علوم الأحفوريات والمنحوتات، يجدون فيها ما نقول به اليوم، ودونكم الاطلاع على الأساطير كملحمة جلجامش وغيرها، ستجدون حينها كثيرًا مما نحن عليه اليوم، وفي الواقع هذا تبانٍ على الإيمان وإن انحرف البعض، ما دام لم يكن تقليدًا للكفَّار فما المشكلة، وليس الأمر أكثر من تبانٍ فكري.

 

قال (عليه السلام): "وما أنزلَ على العباد". قالوا بأن المقصود هو المطر، كما ذهب إليه المازندراني، على اعتبار أن هذا الماء هو سرُّ الحياة، ونحن لم نرتضه، أما السياق وما أنزل على العباد فربما نقول خيراتٌ واحدة، ولا تنظروا إلى عِرقٍ هنا أو هناك، أو أن هنا خيرٌ وهناك خير، ولكن الأقرب ربما ما أنزل على العباد ممَّا جاء به الرسل، فيتعرَّضون جميعًا لدعوةٍ واحدة، وهي التوحيد، فالمسألة راجعةٌ إلى الوِحدة التي لا دخالة فيها لنفس هذا الإنسان، فهناك دعوةٌ إلى الله وللإيمان بالغيب، وهي نازلةٌ على العباد عن طريق الرسل، وهناك أمرٌ آخر وهو أن ما يتعرَّض له الإنسان نازلٌ من الله تعالى، وهذا أيضًا لا يفرق بين أبيض وأسود أو عربيٍّ وأعجميٍّ وغير ذلك. وما مرَّ كله دالٌّ على الله عزَّ وجل.

 

فائدة:

إننا نرى أن جمع (عبد) على عبيدٍ أو عِبادٍ يعطي معنًى مختلفا، فالجمع على (عبيد) هو لعامَّة الناس، بينما الجمع على (عباد) خاصٌّ بالمؤمنين منهم، ويمكن مراجعة ذلك في رسالتنا براءة المطمئِّن. وبالتالي ما أنزل على العباد يكون خاصًّا بمن آمن بالرسل لا كل العبيد.

 

ثم نسأل: لماذا قال على الرب، ولماذا قال عزَّ وجل؟

يريد أن يبين أن المراد ليس التألُّه وأنه المعبود فلم يقل (الله)، لأنه ليس في هذا المقام، بل في مقام الدلالة على المدبِّر والمتسلِّط، وهو الرب، ثم قال (عزَّ وجل) تنزيهًا له عنكم كمخلوقات.


[٤٠] الرواية الثانية: محمَّد بن علي بن الحسين في التوحيد والأمالي وعيون الأخبار، عن أحمد بن محمَّد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم، عن علي بن معبد، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه دخل عليه رجلٌ فقال له: ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال: أنت لم تكنْ ثم كنتَ وقد علِمتَ أنك لم تكوِّن نفسَكَ ولا كوَّنكَ من هو مثلك.

 

قال الإمام (عليه السلام) أنك دليل حدوث العالم، وأظهر للرجل الوجه في ذلك بأمورٍ ثلاثة: أولا: ما كنتَ ثم كنت، ثانيا: وتعلم أنك لم تكوِّن نفسك، ثالثا: ولم يكوِّنكَ من هو مثلك. وبما أنك جزءٌ من هذا العالم، وهذا الحكم الذي هو للجزء يلحق بالكل، فإذا جئت وطبَّقت على الأجزاء الموجودة نفس القاعدة، تحصل على نفس النتيجة، وهو شبيهٌ ببرهان بطلان التسلسل، ولانطباق القاعدة على عموم المفردات كان لها حكم الكلِّي، فكل الموجودات يثبت لها حكم الحدوث.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون