من جذورنا نتغذَّى.. بها نحيا
من جذورنا نتغذَّى.. بها نحيا
عندما نواجه ظاهرةً اجتماعيةً عامةً أو مجتمعيةً خاصةً فإننا لا بد وأن نفكر في مناشئها عندما نسعى لفهمها، ثم العمل على تفكيكها وتصحيح المسار إذا كانت ظاهرةً سلبية، حيث إن كل معلولٍ لا بد له من عللٍ سابقةٍ عليه، وعن طريق التحليل يمكننا الرجوع إلى العلل التي كانت المناشئ الحقيقية لمثل هذه الظاهرة، فكل موجودٍ لا يمكن إلا أن يكون له عللٌ أوجدته، والظواهر الاجتماعية والمجتمعية ليست خارجةً عن هذه الدائرة.
من الظواهر التي أرى أننا نعيشها بشكلٍ فاقعٍ في العالمين العربي والإسلامي ظاهرة تعظيم أفعال الآخرين وتحقير واستصغار أفعالنا، مهما كانت أفعالهم طبيعيةً ومهما كانت أفعالنا عظيمة، لدرجةٍ تبلغ أن يكون فعلهم الحقير مما نقتدي به لا مما نعظمه فقط، وتكون أفعالنا العظيمة مستحقرةً ومستهجنةً كأنها لا شيء، بل نصفها قبل غيرنا بأنها عاديةٌ أو أنها متخلفةٌ أو غير ذلك من الأوصاف الظالمة المجحفة.
هذه الظاهرة لا شكَّ كما قلنا ترجع لمناشئ سابقةٍ عليها، وما أراه أن المنشأ الأساسي لها هو الشعور بالدونية في قبال الآخرين، فتجد الفرد المسلم أو العربي يقلل من شأن نفسه بوضوحٍ ومن شأن كل مسلمٍ أو عربي، إلا فيما ندر، ويرفع الآخرين ممن هم خارج دائرته، وكأن لهم مميزاتٍ يتميزون بها عنا لا نستطيع الوصول إليها. وأعتقد أن هذا المنشأ وهو الشعور بالدونية أمام الآخرين له علله الكثيرة، كالتخلي عن أصولنا ومبادئنا، والهجمات التجهيلية والاقتصادية التي نتعرض لها بشراسة، وغيرها من الأسباب.
في المجتمع البحراني لم نَسلمْ من مثل هذه الظاهرة بمستوى من المستويات، حتى صرنا سريعي التأثر بغيرنا بشكلٍ ملفتٍ جدا، في كلامنا ومصطلحاتنا ولباسنا ومعيشتنا واهتماماتنا وأفكارنا وغيرها من مستويات ومجالات الحياة، ونحن على ما تعرضنا له كبلدٍ صغيرٍ متأثرٍ كذلك لم نرحم أنفسنا بهجران أصالتنا، فأين هو لباس الأجداد؟ وأين هي المزارع والبساتين؟ وأين هي الحرف القديمة؟ أين هو البطيخ العكراوي؟ والنسيج الجمري؟ وفخار عالي؟ وغيرها من الحرف التاريخية..
عندما نعترف أننا فعلًا نعيش هذه المشكلة، وهي ابتعادنا عن أصالتنا وثقافتنا العريقة الممتدة عبر التاريخ، عند ذلك يبدأ تصحيح المسار، وإلا أننا سنظل نبتعد أكثر فأكثر، والله العالم إلى أين سننتهي حينها..
إذا رجعنا إلى تاريخنا ودرسناه جيدًا وحددنا نقاط قوتنا ونقاط ضعفنا سنتمكن حينها من الانطلاق لتصحيح مسار المجتمع البحراني، والذي لا يخفى أن من أهم معالمه العلم والثقافة المتجذرة في هذا المجتمع، ولا يمكن لأحدٍ أن ينكر ذلك وإثباتها لا يحتاج إلا لأدنى التفات، ومن أدلِّ ما يدل عليها تاريخ علماء البلد والأسماء اللامعة التي تخرجت منه لتكون أعلامًا للمذهب في كل البقاع، ومنارات المساجد والشخصيات التاريخية العظيمة التي توزعت قبورها على هذه الأرض المباركة، وغيرها من الآثار الكثيرة التي تظهر عند تتبعٍ بسيطٍ جدًا لها.
ما أعتقده أن بداية تصحيح المسار تكون من الرجوع لأصالتنا ومبادئنا، واسترجاع هويتنا المفقودة، والرجوع لما يمكن الرجوع إليه من حِرفنا القديمة، وحينها فقط نتخلص من مشكلة استصغار أنفسنا أمام الآخرين، ونبدأ بالبناء من جديد، كما أننا نقضي حينها على الكثير من المشاكل الأخرى لأن منشأها واحدٌ وهو الابتعاد عن أصالتنا بدرجةٍ ما.
بلدٌ حوى ابن ميثم البحراني والشيخ سليمان الماحوزي والسيد هاشم التوبلاني والشيخ يوسف البحراني والشيخ حسين آل عصفور وغيرهم قدس الله أسرارهم، من شأنه أن يمد عنقه لعنان السماء ولا يرضى عن ذلك بدلا.
محمود سهلان
٤ شعبان ١٤٤٠هـ
١٠ أبريل ٢٠١٩م
تعليقات
إرسال تعليق