بريدي الإلكتروني (١٠) زوجي وسواسي



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أسئلةٌ لا تتوقف لأيِّ لحظة، ولم أتصور أنها ستتوقف إلا أنْ يتجمَّد الزمن في آنٍ ما، وتتوقف عقارب الساعة في مكانها دون حراك، نعم ذلك ما كان يفعله زوجي معي، فلا تكاد أسئلته المليئة بالشكوك تتوقف، فكلما أمسكت بهاتفي بدأت التساؤلات، وكلما هممت بالخروج من المنزل تزايدت الاستفهامات، وتشتد أكثر عندما أتزيَّن زينةً خفيفةً مع بعض العطور، وكأنني أعيش في جلسة تحقيقٍ مستمرةٍ بلا انقطاع..

الثقة يا سيدي لا وجود لها في قلبه تجاهي أبدا، فبينما كان يثق بي ثقةً تامةً منذ عقد قراننا، وأبادله الثقة التي بقيتُ أحتفظ له بها حتى قضى عليها بنفسه، لكنه تغير فجأةً دون سابق إنذار! ولم يصرح حتى بشيءٍ قد يكون علةً لشكوكٍ معينةٍ زرعت في قلبه، ما جعل علاقتنا تنحدر إلى هوةٍ سحيقة، حيث كانت شديدة الانحدار..

مرت أسابيع بل شهورٌ على هذه الحالة، ولا حاجة للقول بأنَّ صبري شارف على النفاد، وأنَّ حياتي استحالت إلى جحيم، فإنَّ تحقيقات زوجي لا زالت في تصاعدٍ مستمر، دون أنْ أعرف لها سببا، سواء كان سببًا حقيقيًا أو حتى وهمًا من أوهامه ووسواسه، لكن حادثةً ما وقعت أجَّجت في صدورنا نارًا بما لا يمكن احتماله أبدا، وإليك الحادثة:

توجَّهت لمدرستي كالعادة في صباح يوم الأحد، حيث كنت أمتهن التدريس، وما إنْ أوقفت سيارتي إلا وجاءني رجلٌ مسرعًا نحوي، سلَّم عليَّ وبادلته التحية، وكانت ابنته معه، قد جاء يستفسر عن مستواها وبعض أمورها بالمدرسة، وطلبت منه أنْ يأتي بوقت الدوام الرسمي، لكنه اعتذر حيث إنه سيكون بالعمل ولا يستطيع تأجيل ذلك، فنزلت عند رغبته، بدأ بالسؤال عن ابنته، لكن الأمر لم يتجاوز الدقيقتين، ودون أنْ يكمل، لك أنْ تتصور أنَّ زوجي كان رابعًا معنا، نعم نزل من سيارته وجاء وتهجم عليَّ وعلى الرجل بكلماتٍ قاسيةٍ جدا، دون أنْ يكلِّف نفسه شيئا، ذهب الرجل وهو في شدة الخجل بعد أنْ أرسل ابنته لداخل المدرسة، وبقيت أنظر لوجه زوجي والشرر يتطاير من عينيه..!!

اذهب الآن إلى عملك وسأدخل للمدرسة وحين نلتقي بالظهيرة فلنسوِّ الأمور يا زوجي المحترم -قلت تلك الكلمات وافترقنا- ولا أعلم إنْ كنا سنلتقي -وكيف- بعدها أو بعد جلسة الظهيرة، ثم توجهت إلى عملي، لكن تركيزي كان مشتتًا تماما، فاعتذرت حينها وقررت العودة إلى المنزل.

تصور معي يا أستاذ.. وجود زوجي حينها أثبت أنه لم يكتفِ بتحقيقاته، بل أنه بدأ يراقبني بنفسه، وهو ما كنت أشك فيه سابقا، حيث لمحته يقود سيارته خلفي لمرتين أو ثلاث، لكنني تجاهلت الأمر، وقلت إنها سيارة تشبه سيارته قاصدةً ذلك لا متيقنة، لكنني تأكدت الآن من كل ذلك بعد هذه الحادثة كما ترى..

عدت إلى المنزل باكرًا كما أخبرتك، وذهبت للاستحمام، وغيرت ملابسي وارتديت شيئًا خفيفًا لعله ينفض عن كاهلي بعض التعب، واستلقيت على سريري، ولكن تصور يا سيد أنَّ زوجي وصل بعدي للمنزل بعد ساعةٍ فقط، والساعة لا تتجاوز العاشرة صباحا؟!

تعجبت من عودته المبكرة هذه، لكنني لم أنطق بحرف، وجاء للغرفة مباشرة، ووجه لي شتيمةً أخجل منها فاعذرني، فاشتعلت نيران العفة في قلبي، وكنت أظنه يقصد ما جرى صباحا، إلا أنه أضاف لذلك أمرًا جديدا، ولم أتصور أنَّ أوهامه ستجعله يصدق ذلك، حيث قال أنَّ سيارةً تقف أمام منزلنا منذ أكثر من ربع ساعة، نعم يا زوجتي المحترمة، فما بال صاحبها، واستمر في اتهاماته المشينة، دون أنْ يسمح لحرفٍ واحدٍ أنْ ينطلق من لساني، وأتبع قائلا: إنك اعتذرت قبل شهر أيضًا بيوم الأحد من العمل وعدت للمنزل، وجاءت نفس هذه السيارة ووقفت بجانب منزلنا، ثم تحركت بعد نصف ساعة تقريبا، ثم.. ثم خرجت أنت بسيارتك بنفس الاتجاه!! فما تفسير ذلك يا محترمة، يا شريفة، يا عفيفة؟!

تصنَّمتُ على سريري، وتجمَّدت كل الحروف والكلمات في حلقي، ولم يتحرك مني شيءٌ إلا دموعي التي ألهبت وجهي، وخرج من الغرفة منتصرًا كما يظن، ليجلس بغرفة الجلوس واضعًا قدمًا على أخرى، نعم فقد انتهت تحقيقاته بنجاحٍ تام، وأغلقتْ كلَّ الطرق أمام أي حياةٍ مشتركةٍ بيننا إلى الأبد، لم يترك لي مجالًا لأفكر بالبقاء هنا..

بعد انفصالنا المحتَّم برغبةٍ مشتركةٍ من الطرفين، اكتشفت الكثير من الأمور، عن طريق من شاركوه، ومن أودعهم أسراره، لكنني حمدت الله كثيرًا حينها على ابتعادي عنه وخروجه من حياتي، حيث كوَّنت أسرةً جديدة، وأعيش حياةً سعيدةً هانئةً مع زوجي الحبيب.

اكتشفتُ يا أستاذ مصلح -كما تحب- أنَّ زوجي قد جعل رقابةً علي، لذلك قال أنَّ نفس السيارة وقفت أمام منزلنا قبل شهر، وحدد الأوقات كذلك، وكان دقيقا، وكان ذلك الجاسوس هو جارنا الفاضل، الذي كان يظن أنه يُحسن صنعًا وهو يراقب زوجة جاره لشهورٍ طويلة!! فأي جيرةٍ كانت؟!

واكتشفت أنه قد وكل لإحدى أخواته مراقبتي أيضًا أحيانا، لكنها لم تجد شيئًا بالطبع، فأنا امرأةٌ عفيفةٌ شريفةٌ واثقةٌ من نفسي تماما، بل أنَّ زوجة أخي -قريبته- كانت أيضًا تراقبني حين أزور منزل والدي بطلبٍ منه، فلك أنْ تتصور كل ذلك!!

عرفت كل ذلك من لسان من وثق بها، وخوَّلها وأوعز لها بمراقبتي، وهي صغرى أخواته الثلاث، بل وأكثر من ذلك يا أستاذ، أخبرتني بأسباب شكوكه كذلك، حيث بدأت شكوكه عندما تجسَّس على دفترٍ صغيرٍ أحتفظ به بسبب الوساوس التي لا تفارقه، وكنت قد زيَّنته ببعض خواطر الحب المتفرقة قبل زواجنا، لكنها إلى مجهول، لا إلى أحد، ولعلني كنت أنقشها لزوج المستقبل الذي لم يتمكن أنْ يكونه، وانطلق من هنا حسب ما نقلته، وبدأ يدقق في كلِّ تصرفاتي، وشكلي، ولباسي، وغير ذلك، حتى أنه نقل لها أنَّ المساحيق الخفيفة على وجهي قد تبعثرت ذات ليلة، وهو يشك أنني كنت مع -اااااااه- عشيقي المزعوم، وليته كان يعلم أنَّ ذلك بسبب الدموع التي جرت على وجنتي بسببه، فكان للتو أغلق الهاتف وأرسل سهامه إلى صدري، وعدت للمنزل بهذه الحال.

لحسن الحظ أنَّ رسالتي كانت إلكترونية، وإلا فإن حروفها ستتشابك مع بعضها، ولن تستطيع قراءتها، حيث أنَّ الورقة ستبتل بدموعي التي لم تتوقف وأنا أخط هذه الكلمات..

ليته يعلم أنَّ كلَّ ما جرى كان بسببه، بسبب الوسواس الذي يعتريه، نعم يا أستاذ، اتضح لي أنَّ الرجل يعاني هذا المرض النفسي، لقد كان مريضا، وزوجة أخي هي من أتت به لحياتي، وهي تعلم بمرضه، إنه رجلٌ مريضٌ بالوسواس!!

أختك خديجة

محمود سهلان
١٩ فبراير ٢٠١٧م

تعليقات

  1. أخطر مرض سلطاني فتاك هو الوسواس (وبأي شكل وفي أي جهة وفي أي موضوع كان).
    حسين علي رضي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون