كلمة في مولد الإمام السجاد عليه السلام
كلمة مولد الإمام السجاد عليه السلام للعام ١٤٤١هـ
نمر في هذه الفترة من العام بظروفٍ خاصةٍ
منعتنا من الاجتماع بالمأتم لإحياء هذه الليلة كما هو المعتاد في كل عام، وفرضت
علينا تحويل احتفالاتنا من الواقع إلى الفضاء الإلكتروني، في محاولةٍ لتقديم أفضل
ما نتمكن من تقديمه في ظل هذه الظروف الصعبة، وهذا الابتلاء الصعب، ونسأل الله
تعالى أن يكشف هذه الغمة عنا، وأن يعود بنا لحياتنا الطبيعية، وأن يعجِّل فرج
مولانا صاحب العصر والزمان، ويعجل فرجنا به، إنه سميعٌ مجيب.
انطلاقًا من الواقع الذي نعيشه اليوم اخترت
الحديث في محورين، سيشكِّلان معًا هذه الوقفة السريعة في ظلِّ بركات سيدنا وإمامنا
علي بن الحسين السجاد –عليهما السلام-:
الأول: الابتلاء ونيل المقامات العالية:
قال عزَّ وجل في مُحكم كتابه الكريم: (أَحَسِبَ
النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت، ٢].
وقال عزَّ من قائل: (وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) [البقرة، ١٢٤].
الابتلاء والبلاء والافتتان كلها بمعنى
الاختبار، وهو ما يعيشه الإنسان في كل لحظات حياته، فما هذه الدنيا إلا دار اختبارٍ
للعبيد، فالفقير –مثلا- يُختبر في فقره، والغني يفتتن بغناه، وكل إنسانٍ فهو مبتلًى
في أمواله وأولاده، وصاحب المنصب العالي مبتلًى في منصبه، ومن لا منصب ولا وجاهة
له مبتلًى بما هو فيه، والسقيم مبتلًى في سقمه، والصحيح مبتلًى في صحته، وهكذا هي
حياة الإنسان تجري هذا المجرى منذ الولادة حتى الرحيل من هذه الدنيا.
وهذا الابتلاء الذي نعيشه اليوم ليس بدعًا من
الأحداث، ولا أمرًا جديدًا لم يسبق أن مرَّ مثله، بل مرَّ ما هو أسوأ منه على
البشرية، فما أكثر الأمراض والأوبئة التي تعرضت لها البشرية، وأودت بعشرات بل
بمئات الآلاف من الناس، وما أكثر الأحداث التي وصل ضحاياها لمئات الآلاف بل بلغت
المليون وأكثر بما اقترفته أيدي البشر، وبالتالي فالمؤمن في مثل هذه الحالة ينبغي
له أن يتحلى بالهدوء والصبر، وأن يكون وقورًا عند الهزاهز كما في الرواية الشريفة،
وعليه اتباع ما تقتضي الحكمة في التعامل مع هذه المواقف، فالرخاء بلاءٌ والشدة
بلاء، والغاية كلها في ما بعد الموت!
نعود للآية المباركة التي تحدثَّ عن ابتلاء
خليل الله إبراهيم -عليه السلام-، لنستكشف أمرًا في غاية الأهمية، وهو كيف للإنسان
أن ينطلق لنيل المقامات العالية والدرجات الرفيعة من خلال النجاح في الاختبار،
وتجاوز البلاء بالصبر عليه، والحكمة، وهو الأمر الذي تفوَّق فيه خليل الله إبراهيم
–عليه السلام- حيث تخطى الكثير من الاختبارات، فكان الله -كما عبرت الرواية- اتخذه
عبدًا قبل أن يتخذه نبيا، ثم اتخذه نبيًا قبل أن يتخذه رسولا، ثم اتخذه رسولًا قبل
أن يتخذه خليلا، ثم اتخذه خليلًا قبل أن يتخذه إماما، وكل ذلك بعد أن تجاوز
الاختبارات التي ابتلاه بها الله سبحانه وتعالى، من قبيل ترك ابنه وزوجته في صحراءَ
خالية، في وادٍ غير ذي زرع، لا ماء فيها ولا كلأ، وإقدامه على ذبح ابنه استجابةً
لأمر الله، وهل يوجد أشد من مثل هذه الاختبارات؟! فبلغ الدرجة الأعلى بالنسبة إليه
وهي الإمامة، حتى كبرت الإمامة في عينيه وطلبها لولده، فجاء الجواب (لا ينال عهدي
الظالمين)، وليس بالنفي مطلقا، لأن السفيه لا يكون إمام التقي بتعبير الإمام
الصادق –عليه السلام-، فلا ينال هذا العهد الظالمون من ذريتك يا إبراهيم، ولكن
يناله الصالحون الأتقياء المخلصون، وهم محمدٌ وآل محمدٍ –صلوات الله عليه أجمعين-
فهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم –عليهما السلام-، ومن هؤلاء الإمام السجاد –عليه
السلام-.
وقبل الانتقال للمحور الثاني من الكلام نؤكد
أن المؤمن ينبغي له أن يأخذ الموعظة والحكمة من قصة نبي الله إبراهيم –عليه
السلام- وينظر للابتلاء على أنه فرصةٌ للتكامل ونيل المقامات الرفيعة، والانطلاق
دائمًا من الصبر، الذي هو من الإيمان كالرأس من الجسد، وأن يجعل حقيقة دوام
الابتلاء في الشدة والرخاء حاضرةً في ذهنه دائما..
الثاني: الإمام السجاد والدعاء في الشدة
والرخاء:
الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب –صلوات
الله وسلامه عليهم- ولد في مثل هذا اليوم من العام الثامن والثلاثين للهجرة، فيكون
عمره في يوم واقعة كربلاء ثلاثًا وعشرين عامًا تقريبا، واستشهد في الخامس والعشرين
من محرم في العام الخامس والتسعين للهجرة المباركة، فيكون عمره الشريف حوالي سبعٍ
وخمسين سنة. وقد شهد واقعة كربلاء وهو في حالة مرضٍ شديدٍ أقعده عن واجب الجهاد،
وشهد كل ما جرى قبل وأثناء وبعد ظهيرة العاشر، وقد قيد بالحديد هو وعماته ونساؤه
والأيتام وباقي الركب المبارك، وغير ذلك من البلايا التي شهدها بعينيه، وسمعها
بأذنيه، ولسنا على أي حالٍ في وارد تفصيل ما جرى عليه، ولسنا في وارد تهييج
الأحزان، بل نحن في يوم فرحٍ وسرور، والمؤمنون على اطلاعٍ بما جرى. لكنه صبر على
كل ذلك، وعمل بما يرضي الله تعالى، بل قد يكون استثمر كل تلك الأحداث من أجل الدين
الحق.
تميزت شخصية الإمام السجاد –عليه السلام-
بكثرة العبادة والدعاء والتضرع إلى الله تعالى كما هو شأن أهل هذا البيت الطاهر،
إلا أن اسم هذا الإمام ارتبط بالدعاء بشكلٍ كبيرٍ جدًّا لارتباط الدعاء في أذهاننا
بالصحيفة السجادية المباركة، وكذلك الأدعية الأخرى التي وصلتنا عنه –عليه السلام-،
كدعاء أبي حمزة الثمالي العظيم، حيث اتخذ الدعاء منهجًا في أداء رسالته.
أما في معنى الدعاء فنقول: الطلب في اللغة
يأتي على عدة معان، والدعاء واحدٌ من تلك المعاني، وهو خاصٌّ بالطلب من الداني إلى
العالي، ويقابله الطلب من المساوي ويسمى التماسا، ومن العالي إلى الداني ويسمى
أمرا.
ومعرفتنا بالمعنى تجعلنا ننتبه لمسألة عقديةٍ
مهمةٍ يتضمنها الدعاء، ينبغي للمؤمن أن يتنبه لها جيدا، وهي الإقرار بعلو الله
سبحانه وتعالى وربانيته وألوهيته، فأنا حينما أدعو وأتضرع أقر ضمنًا بدنوي تجاهه وعلوه
تجاهي جلَّ وعلا، لذلك فالدعاء من أهم محطات القرب بين العبد وربه، ولا يصح
الاستهانة بها، فهي ليست مجرد ألفاظٍ كما قد يتصور البعض، بل أن الغالب في مضامين
الأدعية الإقرار بالكثير من العقائد الحقة، كالتوحيد والنبوة والإمامة وغيرها،
وبالتالي فهي محطةٌ لا ينبغي تجاهلها على أي حال، لذلك نكاد نجد لكل فعلٍ من
الأفعال مهما كان صغيرًا ذِكرًا أو دعاءً خاصا به، بالإضافة للأدعية والأذكار
المناسبة لكل حال، فالذكر حسنٌ على كل حال.
الآن في مثل هذه الأوضاع التي نعاني فيها ما
نعاني ما أحوجنا للدعاء والتضرع والمناجاة، ونجد الكم الهائل منها في كتب الأدعية
والصحيفة السجادية المباركة، ففي حالة الابتلاء يلجأ الإنسان إلى جهة قوةٍ يرتكز
عليها، وكلما كانت الجهة أقوى بنظره اختارها على غيرها، وبالتالي فالخيار عند
المؤمن هو الله تعالى لا محالة، من خلال الدعاء كما أشرنا، وكذلك من خلال الصلاة
والصيام والصدقات وما شابه من أعمال البر والتقوى التي يعلم العبد أنها تقربه من
الله تعالى.
لكننا نشير إلى مسألةٍ جديرةٍ بالاهتمام، وهي
حاجة الإنسان لاستثمار وقت الرخاء، فلا يترك هذه الأعمال الحسنة، التي من أهمها الدعاء
لحين الشدة فقط، بل ينبغي للمؤمن أن يواظب عليها في حال الرخاء، ولو على نحو الشكر
للمنعم، وقد وعد تعالى فقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم)، فقد يكون هذا الدعاء هو ما
يحقق الوقاية للمؤمن من الأمراض والبلايا والمحن، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى
فاللجوء إلى الله في حين الشدة فقط قد يكون أشبه بالمصلحة، وأبعد من الصدق في
العبودية، وسرعان ما تبتعد بعد أن تُقضى حاجتك، بينما الذي يواظب على هذه الأعمال
ما استطاع فلا يقع في مثل هذا المحذور.
تذكيرٌ قبل الختام:
قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة، ٤٥].
وقد فسر بعض المفسرين الصبر هنا بالصوم،
ومهما يكن فنحن مأمورون بالصبر والصلاة والصيام والدعاء وكل ما يرضي الله تعالى،
وفي مثل حالنا اليوم نحن أحوج إلى ذلك كله من أي وقت.
في زاد المعاد عن الصادق –عليه السلام- أنه
قال: (كان السجاد –عليه السلام- إذا دخل شعبانُ جمع أصحابه وقال: يا أصحابي أتدرون
ما هذا الشهر؟ هذا شهر شعبان، وكان النبي –صلى الله عليه وآله- يقول: هذا شهري،
فصوموا هذا الشهر حبًّا لنبيكم وتقربًا إلى ربكم، أُقسم بمن نفسي بيده لقد سمعت
أبي الحسين –عليه السلام- يقول: سمعت أمير المؤمنين –عليه السلام- يقول: من صام
شعبانَ حبًّا لرسول الله –صلى الله عليه وآله- وتقربًا إلى الله –عزَّ وجل- أحبَّه
الله وقربه إلى كرامته يوم القيامة وأوجب له الجنة).
وفي الختام دعوةٌ وتأكيدٌ للتركيز على الدعاء
لسيدنا ومولانا المنتظر –عجل الله فرجه- بالفرج، ففي فرجه كل فرج، وفي ظهوره كل
ظهورٍ يريده المؤمنون، كما ونسأله تعالى أن يجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين
بين يديه، فغايتنا دار المقر لا دار الممر.
ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله،
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
محمود سهلان
ليلة الخامس من شهر شعبان المعظَّم 1441هـ
تعليقات
إرسال تعليق