يضعُ يدهُ على الرؤوس..



يتداول المؤمنون كلامًا مفاده أن الإمام القائم –عجَّل الله فرجه- إذا ظهر يضعُ يده على رؤوس المؤمنين فتكتملُ عقولهم، فهل لهذا الكلام من مستندٍ يَستند إليه المؤمنون أم لا؟

في الواقع نعم هناك مستندٌ لهذا الكلام نجده في كتبنا الحديثية، فقد نقل الشيخ الكليني –قدِّس سره- في كتاب العقل والجهل في الجزء الأول من الأصول من موسوعته الحديثية العظيمة (الكافي) هذا الحديث عن الإمام الباقر -عليه السلام- قال: (إذا قامَ قائمُنَا وَضَعَ اللهُ يدَه على رؤوسِ العِباد فجمعَ بها عقولَهم وكَمَلَتْ بها أحلامُهُم). كذلك نجد نفس الحديث ينقله العلامة المجلسي –قدس سره- في بحاره عن إكمال الدين بتغييرٍ طفيف، حيث لم يذكر لفظ الجلالة هناك، وهو عن الإمام الباقر -عليه السلام- قال: (إذا قامَ قائمُنَا وَضَعَ يده على رؤوسِ العِباد فجمعَ بها عقولَهم وكَمَلَتْ بها أحلامُهُم)[المجلسي، بحار الأنوار، ج٥٢، ص٣٢٨].

التفسير الأول لهذه الرواية هو ما يتداوله بعض المؤمنين كما أشرنا، أن الإمام –عليه السلام- إذا قام يضع يده على الرؤوس فتكتمل وتجتمع، سواء كان ذلك بطريقٍ طبيعيٍّ أم بطريقٍ إعجازي، ولا ضيرَ في كونه من الاحتمالات القريبة.

هل توجد احتمالاتٌ أخرى؟

نعم.. خصوصًا إذا حاولنا الدخول في التفاصيل..

في إحدى الليالي التي نخصصِّها للمباحثة والمناقشة في روايات الكافي الشريف طرح بعض الإخوة احتمالاتٍ أخرى لهذه الرواية، أذكر منها الاحتمال التالي وهو الذي أميل إليه وأراه الأقرب دون اقصاءٍ للتفسيرات الأخرى:

إن المراد من الرواية أن الإمام القائم –عجل الله فرجه- إذا خرج يبسطُ اللهُ يده فيتمكن من السيطرة على رؤوس العباد، وتكون له الكلمة العليا عليهم، فيجمع عقولَهم على أمره، وتكتمل عقولُهم لهذا البسط وما له من آثار، والمقصود من رؤوس العباد كبار كل قوم، والأحلام في قوله: (كملت أحلامهم) هي بمعنى العقول.

معنى كلمة (أحْلام) في اللغة:

الأول: الأحلامُ: الأجسام، بلا واحد (أي لا مفرد لها)[القاموس المحيط].
الثاني: الحُلْمُ والحُلُم: الرؤيا، والجمع أحْلام [لسان العرب].
الثالث: الحِلْم، بالكسر: الأناة والعقل، وجَمعُه أحلامٌ وحلوم [لسان العرب].
الرابع: والحِلْم: نقيض السَفَه [لسان العرب].

والمختارُ في التفسير الذي ذكرناه هو المعنى الثالث.

أما استعمال لفظ (العِباد) فقد يكون لخصوصيةٍ فيه كما يبدو، فهو أخصُّ من لفظ (العبيد) كما أشار لذلك سماحة السيد محمد العلوي في بحثه (براءةُ المطمئن)، حيث يقول: "يُجمع (العبد) فيقال: (عِبَاد) ويقال (عبيد)، أما العِباد فهم الذين حققوا نسبةً من المعرفة بالمعبود جعلتهم يرتقون إلى مستوى العبودية، في حينِ أن العبيد هم المقهورون المجبورون على فعل الشيء سواء كان برضاهم أو لا". ثم يقول: "اتضح أن بين العِباد والعبيد عمومًا وخصوصًا مطلقا، فكل العباد عبيد، ولا عكس"[تحصيل الرشاد وتحصين العباد، ص٢٧٢-٢٧٣].

يساعد على الاحتمال الذي اخترناه أيضًا ما تُثبته بعض الدراسات الاجتماعية وما نراه بالوجدان من أن التأثير في المجتمعات إنما يكون من خلال مجموعةٍ قليلة، بل أننا نجد الآلاف والملايين يجتمعون ويتَّبعون رجلًا واحدا، ويجعلونه لهم رأسا، حتى يصل الأمر لاتباع أفكارِ ونظرياتِ رجلٍ مضى من هذه الدنيا منذ عقودٍ وقرون، فكيف إذا كان هؤلاء هم من رؤوس المؤمنين، ورأسهم ورئيسهم وحُجَّتهم هو الإمام المنتظر عجل الله فرجه؟!

إذا صحَّ ما ذكرناه نتمكَّن من الاستفادة من ذلك في تعاملاتنا الاجتماعية، فينبغي لنا حينها كمجتمعاتٍ مؤمنةٍ أن نتَّبع مثل هؤلاء، والعمل على إيجادِهم من خلال التربية الصحيحة والتنشئة الفاعلة في المجتمع، وكل ذلك لا بد أن يكون وُفق ما يرشد إليه الثقلان المقدسان.

أما بسط اليد وجعلها العليا كيف يكون؟ على تقدير ورود هذا السؤال في الأذهان، فيمكن أن يكونَ بما جعله الله تعالى لهذا الإمام من قوةٍ وقدراتٍ وتأييد، وبمساعدة الظروف المحيطة، وقد يكون عن طريق نشر العلوم الصحيحة والثقافة السليمة بما يجعل الناس تميل لهذا الطرح الجديد، وقد يكون بغير ذلك، حتى بالمعجزات فالقضية عالميةٌ وداخلةٌ في الهدف الأسمى من الخلق، فلا نستبعد أي شيءٍ من الطرق الصالحة، ولا نستبعد تدخل يد الغيب.

محمود سهلان
٩ ذو الحجة ١٤٤٠هـ
١١ أغسطس ٢٠١٩م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون