الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال الرابع والثمانون

 


تقريراتٌ مختصرةٌ لدرس سماحة السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي (حفظه الله)، في كتاب الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة، بقلم محمود سهلان العكراوي:

المقال الرابع والثمانون:

 

في الرواة المباشرين عن الأئمَّة (عليهم السلام):

 

مقدِّمةٌ:

   نعتقد نحن الشيعة بعصمة أربعة عشر شخصًا، هم النبيُّ وفاطمة والأئمة من ولدها (صلوات الله عليهم) لا غير، ولا نقول بعدالة الصحابة ولا عصمة العلماء والفقهاء مهما بلغوا من الفضل، لذلك لا يصح أنْ نقدِّم أقوالهم على أقوال وأفعال وتقريرات المعصومين من أهل بيت الرسالة (صلوات الله عليهم)، وكذا لا يصح أنْ نُعامِل الأصحاب -والكلام في خصوص الرواة في المقام- كأنهم معصومون لِمَا يترتب عليه من مشاكل كثيرةٍ عند البحث في أحوالهم.

   بطبيعة الحال غير المعصوم من شأنه أنْ يقع في الخطأ، حتى أَجلُّ الأصحاب لم يَسْلَموا من ذلك، لكنَّ هذا لا يقدح في إيمانهم ولا في وثاقتهم بمجرَّدِه، ومن ذلك ما رواه الكشِّي في رجاله عن الباقر (عليه السلام)، قال: "ارتدَّ الناس إلا ثلاثة نفرٍ، سلمان وأبو ذرٍّ والمقداد، قال: قلت: فعمار؟ قال: قد كان جَاضَ جَيضَةً ثمَّ رجع، ثمَّ قال: إنْ أردتَ الذي لم يشك ولم يدخله شيءٌ فالمقداد، فأمَّا سلمان فإنَّه عَرَضَ في قلبه عارضٌ أنَّ عند أمير المؤمنين (عليه السلام) اسم الله الأعظم لو تكلَّم به لأخذتهم الأرض، وهو هكذا، فلُبِّب وَوُجِئَت عنقه حتى تُرِكَت كالسلقة، فمرَّ به أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: يا أبا عبد الله هذا من ذاك، بايِع، فبايَع، وأمَّا أبو ذرٍّ فأمره أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسكوت ولم يكن يأخذه في الله لومة لائمٍ فأبى إلا أنْ يتكلم، فمرَّ به عثمان فأمر به، ثمَّ أناب الناس بعدُ، فكان أول من أناب أبو سنان الأنصاري وأبو عمرة وشتيرة وكانوا سبعة، فلم يكن يَعرِف حقَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا هؤلاء السبعة".

   جاض: أيْ حاد وعَدَل.

   أمَّا سلمان فانظر لأمره (عليه السلام) إياه: "بايع"، ويُقال (بايع) إذا صدر من الفرد ذنبٌ يستوجب تجديد البيعة.

   وأمَّا أبو ذرٍّ كما ترى خالف كلام الإمام مع معرفته بمقام الإمام.

   ثمَّ انظر إلى أنَّ الإمام استثنى ثلاثة، ثمَّ عاد واستثنى من الثلاثة واحدًا، وهو المقداد.

   الإنسان ابن بيئته، له تربيته وطبيعته وظروفه الخاصة، وأهل البيت (عليهم السلام) لم يغفلوا عن ذلك، لذلك أَمَرَ أمير المؤمنين (عليه السلام) أبا ذرٍّ بالسكوت كما في الرواية، لكنَّه تكلم كثيرًا ولم يتمكن من السيطرة على طبعه، وعندما سكت عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض المرات فلا يعني هذا أنَّه راضٍ عن فعله. ثمَّ إنَّ الإيمان موجودٌ بالقلب فعلًا، لكنَّ هذا الإيمان أيضًا بسبب واقعياتٍ كثيرةٍ، وقد يهتز ويُصاب بالخلل ثمَّ يعود، وهكذا كان عمارًّا، لكنَّه باقٍ على إيمانه، فعندما يذم الإمام أحد أصحابه على أمرٍ معيَّنٍ فلا يُسقطه ذلك تمامًا.

 

مُحمَّد بن مسلمٍ الطَّحَّان:

   إذا فهمنا هذه المقدمات نجيئ إلى رواياتٍ للأئمَّة تتكلم عن بعض الأصحاب، وفي مقامنا نتكلم عن محمَّد بن مسلم، ومنها ما تتكلم في عقيدته ومشكلةٍ فيها، فقد مرَّت عليه فترةٌ يقول بأنَّ الله لا يعلم بالشيء قبل حدوثه، ومسألة العقيدة ليست بالأمر الهيِّن، لكنَّه إنسانٌ كغيره من الناس لا يمكنه أنْ يمنع تفكيره، وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): "لعنَ الله محمَّد بن مسلم كان يقول إنَّ الله لا يعلم الشيء حتى يكون".

   يأتي عَلَمٌ من الأعلام كالسيد الخوئي (رضوان الله عليه) ويضعِّف هذه الرواية بجبرئيل بن أحمد، ثمَّ يقول حتى لو كانت هذه الرواية صحيحةً فهي لا تصمد أمام الروايات المثبتة لوثاقته ووجاهته ودينه وزهده وعلمه، ولكنْ نُجيب على كلام السيد الخوئي ونقول: قد يكون مقام الذمِّ هذا صغرى للكبرى التي يرجع إليها ذمُّ الإمام (عليه السلام) لزرارة، ليبعد الأنظار عنهما، أو نقول: إذا كان الإمام لعن محمَّد بن مسلم فهو لعنه في هذا المورد لهذا القول، فإذا تاب عنه ورجع ارتفع اللعن، فهذا القول يُلعَن قائله حتى يعود عنه، فنسجِّل هذه الاحتمالات ولا نقطع بها الآن، ولا نعيش حالةً من الحساسية تجاه الذي يصدر في حقِّه الذمُّ من الإمام أو ما شابه.

   وما نريد أنْ نثبته هنا أنَّه إذا وَرَدَ مَدْحٌ أو وَرَدَ ذمُّ فليس هذا كلَّ الأمر، فلا الممدوح يبقى ممدوحًا طوال حياته، ولا المذموم يبقى طوال حياته كذلك، بل نسعى لمعرفة حاله إجمالًا.

 

ملاحظةٌ في مفهوم العصمة:

   نحن ندرس العقيدة لأكثر من ألف عامٍ وأيدينا في الماء وليست في النار، فنحن مميَّزون ومعروفون على أنَّنا شيعة، وأئمتنا قد ذهبوا وبقي لنا إمامٌ غائبٌ، لكنَّ الأمر لم يكن كذلك في زمن الأصحاب الذين عاشوا في عهد الأئمَّة (عليهم السلام)، فيرى الشيعي الإمام أمامه وغاية الأمر أنَّه يراه إمامًا مُفترَض الطاعة، ومسألة العصمة لم تكن ناضجةً بالنسبة إليهم في الأئمَّة (عليهم السلام) بل حتى في رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، والذين يعتقدون عقيدةً صحيحةً وناضجةً في العصمة كانوا قِلةً قليلةً، مع أنَّ الفرد يبحث دائمًا عن جهةٍ معصومةٍ لكنَّ التسليم ليس أمرًا سهلًا، لأنَّ قرارات المعصوم تُخالف أذواقنا في الكثير من الأحيان. بالنسبة إلينا فنحن نُحلِّل الروايات في الكتب وفي أجواءٍ علميةٍ وبين طلبة العلم، ونتناقش وننظر في المسألة، حتى صارت واضحةً وبسيطةً نظريًّا، لكنْ إذا جاء المعصوم واتخذ القرارات يتضح الأمر حينها.

 

   محمَّد بن مسلم كان رجلًا غنيًّا تاجرًا من عشيرةٍ غنيةٍ، أَمَرَهُ الإمام بالتواضع، وطاعةً وامتثالًا للإمام ذهب ليبيع التمر بالقرب من المسجد، فلم تقبل عشيرته، فذهبوا يلومونه على فعله لكنَّه قال أنَّه يفعل ذلك طاعةً للإمام، فطلبوا منه أنْ يذهب لسوق الطحانين فأطاعهم وذهب، فسُمِّيَ بالطَّحَّان، وكان أعورًا قصيرًا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون