سقوطُ الشَلمغاني من القمة
للاطلاع على قَصص وتاريخ الأمم السابقة وسِيَر بعض الشخصيات الكثير من الفوائد، تتنوع من جهة كونها شخصيةً أو مجتمعيةً أو اجتماعية، فالتاريخ حقلٌ واسعٌ جدًّا مترامي الأطراف يستطيع كل من نظر في أحداثه ووثائقه أن يعثر على الكثير من الكنوز، ويتمكن من إرجاع المسائل الحاضرة إلى أصولها التاريخية، وبناء المستقبل بالنظر إليها وللزمن الحاضر، كما أنه يتمكن من نيل الكثير من الفوائد من خلال دراسة شخصيات تلك الحُقب الماضية ويتعلم الكثير من الدروس. ومن تتبع آيات القرآن الكريم يجد أنه قد استعمل أسلوب القصص والأمثلة التاريخية كثيرا، ومن الواضح أن آثار ذلك كانت كبيرةً جدا، وقد قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)[يوسف/٣].
من القصص التي فيها الكثير من الدروس والعِبر قصة ابن أبي العزاقر الشلمغاني، وهو عالمٌ شيعيٌ ادعى السفارة عن الإمام المنتظر –عجل الله فرجه- في الغيبة الصغرى، وهو من الشخصيات التي ألقت بنفسها من أعلى السُّلم إلى أسفل سافلين، وفيما يلي أذكر شيئًا من قصة هذه الشخصية وما آل إليه أمرها:
أما في بيان علو منزلته قبل انحرافه فنقول: أن علماءنا قالوا أنه (كان) شيخًا مستقيم العقيدة والسلوك صالحًا متقدمًا من أصحابنا حتى أن الشيخ أبا القاسم الحسين بن روح –السفير الثالث- نصبه وكيلًا عنه عند استتاره من المقتدر. وكان الناس يقصدونه ويلقونه في حوائجهم ومهماتهم. وكانت تخرج على يده التوقيعات من الإمام المهدي -عليه السلام- عن طريق ابن روحٍ رضوان الله تعالى عليه.
وله كتبٌ عُرضت بعضها على السفير ابن روحٍ ونظر فيها وقال بصحتها إلا في مواضع نادرةٍ منها، ثم أمر –السفير- بنسخها حتى كثرت نسخها عند الأصحاب.
ولكن كيف انحرف عالمٌ بهذا المقام حتى ترك المذهب ولعنه الإمام –عليه السلام- وسفيرُه ابن روحٍ رضوان الله عليه؟
"ثم إنه حمله الحسد لأبي القاسم بن روح، على ترك المذهب، والدخول في المذاهب الرديئة وظهر منه مقالاتٌ منكرةٌ وأصبح غاليًا يعتقد بالتناسخ وحلول الألوهية فيه"[السيد محمد الصدر، تاريخ الغيبة الصغرى، ص٤٤٢].
قال أبو علي بن همام: سمعت محمد بن علي العزاقري الشلمغاني يقول: الحق واحد، وإنما تختلف قُمصه. فيومٌ يكون في أبيض ويومٌ يكون في أحمر ويومٌ يكون في أزرق. قال ابن همام: فهذا أول ما أنكرته من قوله، لأنه قول أصحاب الحُلول.[عن الغيبة للشيخ الطوسي].
وصل الأمر بالشلمغاني بعد انحرافه وإبعاده عن الاختصاص بالسفير، للكذب وقول الكفر ونسبته إلى أبي القاسم بن روح، حتى أرسل السفير إلى من كان يجالسهم من بني بسطام بلعنه والبراءة منه. كما أن ابن روح في بعض مواقفه منه نَسبه إلى ما يقول به الحلاج لعنه الله.
ثم إن أسوء ما قد يتصوره المرء أن يخرج توقيعًا من إمام زمانه بلعنه والبراءة منه وممن تابعه وشايعه ورضي بقوله وأقام على تولِّيه، بعد هذا التوقيع.
أما خاتمة هذا الملعون أنه بعد ما جاء في لعنه والبراءة منه عن طريق ابن روح، وانتشار ذلك بين المؤمنين، أراد مباهلة السفير! فبلغ ذلك إلى الحاكم العباسي الراضي فأمر بالقبض عليه وقتله فقُتل.. وفي خبرٍ آخر أنه قتل وصلب إثر مباهلته للشيخ ابن روح رضوان الله تعالى عليه..
في مثل حياة هذا المنحرف نجد الكثير من الدروس والعبر، ومن أهمها أنه ينبغي للمؤمن أن لا يأمن على نفسه وأن يبقى على مجاهدتها حتى يسكن لحده، فمهما بلغ الإنسان من مراتب عاليةٍ من الإيمان والعلم والمنزلة فإن نفسه والشيطان لا يتركانه حتى آخر نفسٍ له في هذه الدنيا، وقد كان فيما نقلنا عن الشلمغاني أنه عالمٌ فقيهٌ له مقامه بين أصحابنا، حتى أنه كان وكيلًا للسفير الثالث على بعض النقولات إلا أن ذلك لم يمنعه من الانحراف، وهذا ما آل له أمر الكثيرين كالسامري وغيره، فتدبر.
لعل أهم الأسباب التي قادت العزاقري الشلمغاني لهذا الانحراف الخطير المُهلك حسده لابن روحٍ وطمعه في الوجاهة عن طريق نيل السفارة عن إمام الزمان، وإلا لو أنه كان مخلصًا مسلِّمًا لما نازع غيره منصبًا نصبه فيه الإمام، فكيف بمنصبٍ بخطر ومستوى السفارة عنه عجل الله فرجه، وما يبدو لي أن واحدةً من أهم المزايا التي جعلته يتعرض بالحسد لابن روحٍ أنه كان عالمًا وفقيهًا معروفا، أما ابن روح فلم يكن مشهورًا بالعلم كالشلمغاني وغيره من الأصحاب، إلا أن الشلمغاني لاعتداده بنفسه وبما يملك من علمٍ فعل ما فعل، فيما نجد أن الكثير من أجلَّة الأصحاب لم ينازعوا ابن روحٍ الأمر وأذعنوا لما أمر به الإمام المنتظر –عليه السلام- وسلَّموا لأمره مطيعين دون أي اعتراض.
وقد يقول قائلٌ أن الشلمغاني قد يكون مشتبهًا أو غير ذلك فلماذا لم يُعطَ الفرصة ليتوب ويعود للجادة، لكننا نقول أنه حصل على فترةٍ متطاولة من الزمن، حتى أنه ينقل في تاريخه أن الكتاب بلعنه خرج في العام ٣١٢هـ ثم استتر ومارس ما مارس من انحرافاتٍ حتى خرج مجدَّدًا وقُتل في العام ٣٢٢هـ بعد مباهلته للسفير.
ومن أهم ما يمكن أن نخرج به من مثل هذه السيرة كذلك أننا لم نجد الأصحاب قد تدخلوا مباشرةً بعد انكشاف بعض ضلالات الشلمغاني، كما نقلنا عن ابن همامٍ أنه وجد شيئًا منه، لكننا نجد أنهم اتبعوا أمر الإمام –عليه السلام- وسفيره عندما أمروهم بلعنه والبراءة منه، وهو درسٌ عظيمٌ ينبغي أن ننتبه له، فإن البعض في زمننا هذا مع كل الأسف يسارع إلى القول بضلال علمائنا وفقهائنا عند أدنى اختلافٍ يختلف معهم فيه، فليس من الصحيح أن نتصدى لمثل هذه الحالات لدرجة تشخيص بعض الشخصيات على أنها ضالةٌ وسبها وشتمها ولعنها لأدنى اختلاف، فإن الإمام عندما يشخِّص ويأمر فهو يقول الحق وما فيه خير الناس عامةً والمؤمنين خاصة، أما سائر الناس فلا يمتلكون كل الحقيقة، لهذا نجد أن الغالب إن لم نقل كل الأصحاب –بحسب ما نقله لنا التاريخ- لم يتخذوا موقفًا شديدًا مع الشلمغاني من أنفسهم، واتخذوا الموقف الواضح الشديد معه عندما جاء أمر الإمام عجل الله فرجه.
ومما يلفت النظر أيضًا أن كتب هذا الرجل لم تصل إلينا بحسب علمي، وعلى تقدير وصولها أو وصول شيءٍ منها فلم نجد لها أثرًا واضحًا أدى لانحراف المؤمنين عن دينهم وعقيدتهم الحقة، مع أننا نجد أن السفير لم يأمر بالتخلص من كتبه أو حرقها، بل على العكس من ذلك نجد في مضمون النقل التاريخي هذه الحادثة في كتاب الغيبة للشيخ الطوسي، فعندما سئل السفير عن كتبه بعد ذمه ولعنه، وقيل له: فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء؟ فقال: أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما وقد سئل عن كتب بني فضال فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال صلوات الله عليه خذوا بما رووا وذروا ما رأوا.
وفي هذه الحادثة كذلك فائدةٌ رجاليةٌ قد نستنتجها وهي أن الانحراف في العقيدة لا ينافي دائمًا إمكان صحة الرواية، وإن كنت لست بصدد إثباتها أو نفيها، بل الإلفات إليها فقط.
هذه بعض الفوائد التي يمكن أن نخرج بها من سيرة ابن أبي العزاقر الشلمغاني، إلا أن هناك فوائد أخرى يمكن للناظر والمتأمل أن يصل إليها، لكنني أكتفي بما ذكرت..
محمود سهلان
٣ ذو القعدة ١٤٤٠هـ
٧ يوليو ٢٠١٩م
تعليقات
إرسال تعليق