مِدادُ أوال من ينابيعِ الخصال (٣) طُوبى لِمَن اعتقدَ بالمعاد

 


 

     حَدَّثنا أبي (رضوان الله عليه)، قال: حَدَّثنا سعدُ بن عبد الله، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن إسماعيل بن مسلم السَّكُوني، عن الصادقِ جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليٍّ (عليهم السلام)، قال: قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله): طُوبَى لِمَنْ تَرَكَ شَهوةً حاضرةً لِموعودٍ [وفي بعض الكتب (لموعدٍ) كالمنقول في وسائل الشيعة عن ثواب الأعمال] لَمْ يَرَه.

 

     هذه الرواية تُشير إلى أصلٍ من أصول الدين، وهو المعاد، أو تُشير إلى يوم القيامة والجنة، حيث إنَّ الموعود الذي لم يَرَهُ تارك الشهوة في الدنيا هو الثواب الذي يناله على ذلك.

 

بيان المفردات:

     طُوبى: قال في مُختارِ الصِّحاح: "(طوبى) فُعْلَى من الطِّيب، قلبوا الياء واوًا لضمةِ ما قبلها، ويقال: (طُوبى) لك و(طُوباك) أيضا. و(طُوبى) اسم شجرةٍ في الجنة". [الشيخ محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، الجذر: طيب]. وقال في مجمع البحرين: "طُوبى لهم أيْ طيب العيش، وقيل: طُوبى، الخيرُ وأقصى الأمنية، وقيل: طُوبى، اسمٌ للجنَّةِ بلغة أهل الهند، وقيل: طُوبى، شجرةٌ في الجنة" [الطريحي، مجمع البحرين، الجذر: طيب]. وقيل: هي الخير والحُسنى والغِبطة والسعادة، وقيل: هي كلُّ مُستطابٍ في الجنة، من بقاءٍ بلا فناءٍ وعزٍّ بلا زوالٍ وغِنًى بلا فقر.

     ولا يمتنعُ اجتماع المعاني لتوافقها، وإنْ كان الأقربُ إرادة كونها شجرةً في الجنة، كما بيَّنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثٍ -أقتطع منه محلَّ الشاهد- قال: "طُوبَى شجرةٌ في الجنة، أصلُها في دارِ النبيِّ محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)، وليس من مؤمنٍ إلا وفي داره غصنٌ منها، لا يخطرُ على قلبه شهوةُ شيءٍ إلا أتاه به ذلك، ولو أنَّ راكبًا مُجِدًّا سارَ في ظِلِّها مائةَ عامٍ ما خَرَجَ منه، ولو طار من أسفلِها غُرابٌ ما بَلَغَ أعلاها حتى يسقطَ هَرِمًا، ألا ففي هذا فارغبوا". [الكليني، الكافي، ج٢، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح٣٠].

     شهوة: قال في مجمع البحرين: "الشهوات بالتحريك جمع شهوة، وهي اشتياق النفس إلى الشيء" [الطريحي، مجمع البحرين، الجذر: شهو].

 

بيان الرواية:

     طبيعةُ الحياة الدنيا تفرضُ على الإنسان أمورًا كثيرة، منها تعامله مع المحسوسات والماديات، فيكون معتادًا على التعاطي والتعامل مع ما يحسُّ به، لا سيَّما بالحواسِّ الخمس الظاهرية، بينما يصعب عليه التعامل مع الغيبيات وما وراء الطبيعة المحسوسة، إذ التعاطي مع الأشياء يتوقفُ على التصديق بها لا مجرد تصوُّرِها، فإنَّ المحرِّكَ الحقيقي له هو التصديق، وهذا ما يتضحُ عند بيان مقدمات الإرادة لاحقا، لذلك تشتدُ أهمية الإيمان بالغيب والمعاد، والثواب والعقاب، والجنة والنار.

     تصديقُ العقل الإنساني وإذعانُ نفسه يغلبُ عليه ما يحسُّ ويشعرُ به عادة، ومخالفته لذلك المحسوس لا يخلو من صعوبة، فما لم يصدِّقِ العقلُ وتذعنِ النفسُ بالأشياء سواء كانت محسوسةً أو غيرَ محسوسةٍ لا يتمكن الإنسان من التعامل والتعاطي مع الأمور كما ينبغي، وفي حال لم يذعن للحقائق الدينية والشرعية فإنَّه بطبيعة الحال لا يهتم لتلك الحقائق ولا يمتثل لأوامر الشارع ولا ينزجر عن نواهيه، فالعقيدة هي الأساس للتحرك والعمل، بدءًا من تحديد الأهداف والغايات في الدنيا، ثم وضعِ الخُططِ بأنواعها وعلى اختلاف مَدَيَاتِها، وصولًا لنهاية الطريق بعد تجاوز عقباته، وهذا جارٍ حتى في غير الشرعيات.

 

مقدمات الإرادة:

١-    تصوُّر الفعل.

٢-    تصوُّر المصلحة في الفعل.

٣-    التصديق بالمصلحة منه.

٤-    العزم عل الفعل.

     ولتقريب هذه المقدمات أقول: عندما يتعرض أحدٌ للعطش فإنَّه يسعى لرفع ذلك العطش، فيتصور فعلَ شرب الماء، ثم يتصور مصلحتَهُ وهي رفع العطش، ثم يصدِّقُ بأنَّ هذا الفعل رافعٌ للعطش ومحقِّقٌ لغرضه، فيعزم على القيام به وتحقيق غرضه. في حال لم يصدِّق هذا الشخص بأنَّ شربَ الماء يحقِّقُ غرضَهُ برفع العطش فإنَّه لن يتحركَ نحوه على الأغلب ما لم يتدخل أمرٌ آخر.

 

     هنا أُتِمُّ بيانَ الرواية: تقول الرواية أنَّ هناك شهوةٌ حاضرةٌ أمام هذا العبد، فيُمكنه السعي لأخذ مراده منها، ونحتمل هنا أنَّ هذه الشهوة قد تكون مُحلَّلَةً وقد تكون مُحرَّمَة، فإنْ كانت مُحلَّلَةً فلا بأس، فيكون الكلام في المحرمة، فإنَّه بين أنْ يتركَها أو يقترِفَها، فإنْ اقترفَها فقد وَقَعَ في المحذور من مخالفة الله تعالى، وإنْ تركَها للموعودِ الذي لم يَرَهُ فإنَّ الله سبحانه وتعالى يُجازيه على ذلك بـ (طُوبَى)، والتي هي شجرةٌ في الجنة كما مرَّ بيانُهُ على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنت ترى أنَّ المسألةَ ترجعُ بنحوٍ من الأنحاءِ إلى تقديمِ إحدى الإرادتين، فإمَّا أنْ يقدِّمَ الإرادةَ المُتعلِّقَةَ بالشهوة المحرَّمَة فيرتكب الذنبَ ويناله غضبُ الله تعالى، أو يقدِّمَ إرادةَ طاعةِ الله تعالى بتركِ تلك الشهوة المحرمة، ويكون جزاؤه حينها (طوبى)، وفي الحالين يتوقَّفُ الأمرُ على التصديق بالمصلحة في كلا الفعلين.

 

 

محمود سهلان العكراوي

الأحد ١٣ شهر رمضان ١٤٤٥هـ

الموافق ٢٤ مارس ٢٠٢٤م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون