الضلال بالعلم
عرَّفوا العلمَ بأنه: "حضور صورة الشيء عند العقل". [محمد رضا المظفر، المنطق] أو فقل هو الصور الذهنية للأشياء، فإنَّ كلَّ شيءٍ تدركه تكون له صورةٌ في الذهن، سواء كان الإدراك عن طريق الحواسِّ الخمس أو القوى النفسانية الأخرى.
ولكن.. هل كلُّ علمٍ هو نافع؟ أم أنَّ بعض العلوم تؤدي للضلال؟
لا شك أنَّ المعادلة لا تخلو من التعقيد، وقبل التعرض للنصوص المعصومة فلنتأمل التالي..
الإنسان إنما يفكِّر بالرجوع للتصورات الذهنية وتداولها، فإنه إنْ واجه مشكلًا (مجهولا) فإنه يبدأ عملية التفكير للحصول على مطلوبه وحلِّ هذا المشكل، فإذا كانت صوره الذهنية جيدةً فإنها تُعينه على التفكير السليم، أما إنْ كانت فيها بعض الشوائب فإنها تلعب دورها لا شك، بل في بعض الأحيان تخلق له بعض الشبهات التي تحجب عنه أَبدَه البديهيات وأكثر الضروريات ضرورة، أَوَلَم تسمع عمَّن يُنكر القضية الأولية القائلة: (اجتماع النقيضين وارتفاعهما مستحيل)! هذه دون شك أو ريب شبهة، مع اختلاف مناشئها.
عملية التفكير تختلف في سرعتها وطول أمدها، لكنها تمرُّ بأدوارٍ معلومةٍ مقررةٍ في علم المنطق، وهي:
مقدمتان:
الأولى: مواجهة المُشكِل (المجهول).
الثانية: معرفة نوع المُشكِل.
أدوار الفكر:
الأول: حركة العقل من المُشكِل إلى المعلومات المخزونة بالذهن.
الثاني: حركة العقل بين المعلومات الحاضرة للفحص وتأليف ما يناسب المُشكِل.
الثالث: حركة العقل من المعلوم الذي استطاع تأليفه مما عنده إلى المطلوب.
وجود هذه الأدوار الخمسة يؤكد أنَّ احتمالات الخطأ واردةٌ في عدة مراحل من مراحل التفكير، وبالتالي في المعلومات التي نحصل عليها، ويكفي في ذلك تصورًا خاطئًا واحدًا ليُعقِّد المسألة، ولنعطي مثالًا على المقدمة الثانية: يسألك الأستاذ في درس علم الكلام: (ما هو الكلام؟)، وتحاول أن تجيب لكنك تُغفِل أنَّ الدرس هو في علم الكلام وتجيبه بمعنى الكلام في النحو، فتختَّل المقدمة الثانية حيث إنك لم تحدد نوع المُشكِل بالشكل الصحيح، وبالتالي تختل عملية التفكير.
نعود لمحلِّ كلامنا وهو العلم، ونتأمل في حال فردٍ جمع تصوراتٍ خاطئةٍ ثم استعملها في عملية تفكيره، ماذا تكون النتيجة يا ترى؟
لا شك أنه يقع في الكثير من الأخطاء والمغالطات والمخالفات، وبالتالي فهو في طريقه للضلال عن الحق، مطلق الحق. لذلك نجد قيودًا كثيرةً تَعرُض على المسائل المبحوثة عندما يُراد البرهنة عليها، فلا يكون الطريق إليها صناعة الشعر أو الخطابة أو الجدل، فإنَّ فيها ما فيها، ولا طريق حينذاك إلى الحق إلا البرهان.
قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [آل عمران/١٩].
وقال عزَّ وجل: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس/٩٣].
وقال عزَّ مِن قائل: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ) [الرعد/٣٧].
قد يكون نفس العلم ضلالا، وقد يكون تحصيله يؤدي إلى الضلال أحيانًا حتى لو كان حقًّا في نفسه، والشواهد على ذلك كثيرة، ومنها ما سَلفَ ذِكره من آيات، والأمر كما أراه يرجع بدرجةٍ كبيرةٍ إلى نفس الإنسان، وإلى طريق تحصيله للعلوم، وقد ورد عن زيدٍ الشحَّام عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) في قولِ الله عزَّ وجل: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) [عبس/٢٤]، قال: قلتُ ما طعامه؟ قال: عِلمُه الذي يأخذه، عمَّن يأخذه. [الكافي، ج١، باب النوادر من كتاب فضل العلم، ح٨]، وبالتالي فلا بد من مراعاة الجهة التي نَحصل منها على علومنا، ولكن الملاحظ اليوم عدم مراعاة هذا الجانب عند البعض، وضعف المراعاة عند بعضٍ آخر، وبالتالي فإنَّ التصورات الخاطئة تكثر في أذهانهم، وكلما ازدادوا علمًا -كما يظنون- فإنهم يزدادون بُعدًا عن العلوم الحقَّة، وعن الحق، وبالتالي فلا شيء غير الضلال، وإنْ كان ضلالًا في العلم فيهون الخطب، وإنْ وصل إلى الدين فإنها القاصمة، فليس هو إلا الجهل المركَّب الذي يظنه صاحبه علما.
ومما يؤيد ضرورة الابتعاد عن الزوائد والفَضلِ من العلوم، أو لا أقلَّ تأخيرها في التحصيل عن العلوم الحقَّة ما ورد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: دخلَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) المسجدَ فإذا جماعةٌ قد أطافوا برجل، فقال: ما هذا؟ فقيل: علَّامة، فقال: وما العلَّامة؟ فقالوا له: أعلمُ الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): "ذاك علمٌ لا يضُرُّ مَنْ جَهِله، ولا ينفع مَنْ عَلِمه"، ثم قال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): "إنَّما العلم ثلاثة: آيةٌ محكمة، أو فريضةٌ عادلة، أو سنَّةٌ قائمة، وما خلاهنَّ فهو فضل". [الكافي، ج١، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح١].
قد يُشكِل البعض -كما هو المعتاد- بمضمون بعض الروايات التي قالت -مثلا- انظر إلى ما قيل ولا تنظر إلى مَنْ قال، أو خُذِ الحكمة ولو من قلب منافق، وما شابه ذلك، فنقول أنَّ مقامات الكلام تختلف في بعضها عمَّا نحن فيه، والجمع بين الروايات يؤدي لنتائج لسنا بصددها في البعض الآخر، لكن المتيقن أنَّ تلك الروايات لا تخالف ما نحن بصدده، ونترك الأمر إلى محله.
النتيجة التي ننتهي إليها من هذا الطرح: ليس كل علمٍ فيه صلاح، بل الكثير منه يؤدي إلى الضلال، خصوصًا ما لم يكن يؤدي إلى تصوراتٍ وتصديقاتٍ صحيحةٍ وحقيقية، وللابتعاد عن حرف الموضوع وإثارة القارئ أبتعد عن ضرب الأمثلة، ولكنه مع التأمل يتمكن من التعرف على بعضها، حيث قد غزتنا بعض العادات القرائية في السنوات الأخيرة، والواضح عندي أنَّ وَبَالها علينا أشدُّ من نفعها على نفس الأفراد والمجتمع.
الرسالة واضحة.. العلم مطلوب، ولكن بعض العلم مصيره إلى الضلال، وبالتالي فلا بد من تحصيل مقوماتٍ أخرى بالإضافة إليه كي يكون العلم مما يؤدي للتمسك بالحق.
محمود سهلان العكراوي
سترة - البحرين المحروسة
الثلاثاء ٧ ذو الحجة ١٤٤١هـ
الموافق ٢٨ يوليو ٢٠٢٠م
تعليقات
إرسال تعليق