المعصومُ الأسوةُ الحسنة

كلمة المولد النبوي المبارك تحت عنوان: المعصوم الأسوة الحسنة



بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب/٢١].

الأسوة لغة:

قال ابن منظور في لسان العرب: "الإسوة: القدوة.
ويقال: ائتس به أي اقتد به وكن مثله".

وفي معجم المعاني الجامع: "أسوة/إسوة. قدوة، مثال صالح للتشبه به".

الأسوة في كلام المفسرين:

قد نستفيد من بعض كلمات المفسِّرين أن للأسوة معنيين، أو فلنقل أن للمُتأسَّى به حالين:

قال الزمخشري في الكشاف: "وقُرئ أسوة بالضم؟ قلت فيه وجهان: أحدهما أنه في نفسه أسوة حسنة: أي قدوة وهو المؤتسى أي المقتدى به كما تقول في البيضة عشرون منًّا حديد: أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد، والثاني أن فيه خصلةً من حقها أن يؤتسى بها وتتبع وهي المواساة بنفسه".[الكشاف، ج٣، ص٢٥٦].

الأول: أن يكون في بعض أفعاله وأقواله أسوةً وقدوةً لغيره، فالتأسي إنما يكون بفعله أو بقوله في حالٍ ما، لا في كل أحواله.

الثاني: أن يكون هو ذاته أسوةً حسنة، وتكون كل أفعاله وأقواله –إلا ما خرج بدليل- محلًّا للتأسي والاقتداء، فإنها تكتسب هذه الصفة لصدورها منه، لخصوصياتٍ معينةٍ فيه، وأوضح أمثلة ذلك المعصوم إن لم نقل أنها محصورةٌ به.

الأمور الخارجة من دائرة التأسي:

قال شيخ الطائفة الطوسي –قده- في تبيانه: "وذلك يدل على أن الاقتداء بجميع أفعال النبي صلى الله عليه وآله حسن جائز إلا ما قام الدليل على خلافه، ولا يدل على وجوب الاقتداء به في أفعاله".[التبيان، ج٨، ص٣٢٨].

أما على المعنى الأول يمكن أن نتأسى ونقتدي بكل فعلٍ حسنٍ أو قولٍ حسنٍ صدر من أي فردٍ ما دام هذا الفعل قد ثبت حسنه، حتى لو لم يكن فاعله حسنًا ومؤمنا، فلا يأتي الكلام على خروج بعض الأفعال عن محلِّ التأسي بدليلٍ أو بمُخرجٍ إلا في حالاتٍ قليلة.

أما على الثاني فإننا ينبغي لنا أن نتأسى بكل أفعال وأقوال المعصوم ما لم تثبت لها خصوصياتٌ معينةٌ تُخرجها من دائرة التأسي، كما أشار لذلك الشيخ –قده-، فهناك بعض الأمور الخارجة عن مكان التأسي والاقتداء، من أهمها:

١- الأمور التي يتعذَّر على غير المعصوم فعلها، فهناك بعض الخصوصيات التكوينية التي تميَّز بها المعصوم جعلته قادرًا على القيام ببعض الأمور التي لا يتمكن الإنسان العادي من القيام بها، ولو من جهة المداومة عليها، فقد نتمكن من القيام ببعض الأفعال، لكن التعذر أو الاستحالة إنما يكون في المداومة.

٢- الأمور الخطيرة التي تتوقف على تشخيصاتٍ دقيقةٍ جدا، حيث إن الكثير من الأمور لا يمكن للإنسان العادي أن يحيط بها وبمتعلقاتها بنسبةٍ تامة، بينما يتمكن المعصوم من ذلك دون شكٍ أو ريب.

٣- الأمور التي لها خصوصيةٌ من جهة التشريع، كأن تكون مشرَّعةً للنبي أو غيره من المعصومين –صلوات الله عليهم- دون غيرهم، فقد تكون بعض الأمور واجبةً في حق المعصوم دون غيره، أو تكونَ مطلوبةً منه لكنها ليست مطلوبةً من غيره.

٤- بعض الأفعال والأقوال التي صدرت من المعصومين في مقام الاحتجاج على غيرهم، لما لها من خصوصيةٍ يمكن اكتشافها من القرائن والروايات الأخرى.

وقد تكون هناك عناوين أخرى خارجة عن دائرة التأسي نتمكن من التنبُّه إليها مع شيءٍ من التأمل..

سعة دائرة الأسوة الحسنة:

قد يقال أن الآية تحدثت عن كون النبي –صلوات الله عليه- هو الأسوة الحسنة، فكيف وسَّعتم الدائرة إلى غيره من المعصومين –عليهم السلام-؟

نقول أن ثبوت العصمة لهم كافٍ في المقام ولسنا بحاجةٍ إلى تكلف غير ذلك، إلا أنه لا مانع من ذكر بعض الشواهد القرآنية والروائية على ما نعتقده من ثبوت ذلك لسائر الأنبياء والمعصومين –عليهم السلام-:

قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ)[الممتحنة/٤].

قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[الممتحنة/٦].

في كلام النبي (ص) في لحظات عمره الأخيرة لعليٍّ (ع) قال: "فإنك مني بمنزلة هارون من موسى، ولك بهارون أسوةٌ حسنة. إنه قال لأخيه موسى: (إنَّ القومَ استضعفوني وكادوا يقتلونني).[كتاب سليم، ص١٣٧].

في خطبةٍ لأمير المؤمنين (ع) قال: "فلي بهارون أسوةٌ حسنةٌ ولي بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله حجَّةٌ قوية".[كتاب سليم، ص٢١٦].

عن الإمام المنتظر –عجَّل الله فرجه الشريف- في أحد توقيعاته: "وفي ابنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله لي أسوةٌ حسنة، وسيُردي الجاهل رداءة عمله وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار".[بحار الأنوار، ج٥٣، ص١٨٠].

بعض دوائر التأسي والاقتداء بالنبي وآل البيت صلوات الله عليهم:

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنَّ رسولَ الله –صلى الله عليه وآله- كان إذا صلى العشاء الآخرة أمر بوضوئه وسواكه يُوضع عند رأسه مخمرًا فيرقد ما شاء الله ثم يقوم فيستاك ويتوضأ ويصلي أربع ركعات، ثم يرقد ثم يقوم فيستاك ويتوضأ ويصلي أربع ركعاتٍ ثم يرقد حتى إذا كان في وجه الصبح قام فأوتر ثم صلى ركعتين، ثم قال: "لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة".[الكافي، ج٣، ص٤٤٥].

مما ينبغي لنا كمؤمنين أن نقتدي برسول الله -صلى الله عليه وآله- في عبادته وإخلاصه فيها بالقدر الذي نتمكن منه، كذلك في سننه كالتي أشارت له الرواية التي نقلتُها، بل إن رسول الله قال في من امتنع عن الزواج: "منْ رَغِب عن سنتي فليس مني".

ومن موارد التأسي –وهي كثيرة- ما نُفيده من المُقتبس التالي من تفسير الأمثل:

قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي -قده-: "ويبدأ مقدمة هذا البحث بالحديث عن النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله-، حيث كان إمامهم وقدوتهم، فيقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجوا الله واليوم الآخِر وذكر الله كثيرا.

فإن النبي –صلى الله عليه وآله- خير نموذجٍ لكم، لا في هذا المجال وحسب، بل وفي كل مجالات الحياة، فإن كلا من معنوياته العالية، وصبره واستقامته وصموده، وذكائه ودرايته، وإخلاصه وتوجهه إلى الله، وتسلطه وسيطرته على الحوادث، وعدم خضوعه وركوعه أمام الصعاب والمشاكل، نموذجٌ يحتذي به كل المسلمين.

إن هذا القائد العظيم لا يدع للضعف والعجلة إلى نفسه سبيلًا عندما تحيط بسفينته أشد العواصف، وتعصف بها الأمواج المتلاطمة، فهو ربان السفينة، ومرساها المطمئن الثابت، وهو مصباح الهداية، ومبعث الراحة والهدوء والاطمئنان الروحي لركابها.

إنه يأخذ المعول بيده ليحفر الخندق مع بقية المؤمنين، فيجمع ترابه بمسحاةٍ ويخرجه بوعاءٍ معه، ويمزح مع أصحابه لحفظ معنوياتهم والتخفيف عنهم، ويرغبهم في إنشاد الشعر الحماسي لإلهاب مشاعرهم وتقوية قلوبهم، ويدفعهم دائمًا نحو ذكر الله تعالى ويبشرهم بالمستقبل الزاهر والفتوحات العظيمة.

يحذرهم من مؤامرات المنافقين، ويمنحهم الوعي والاستعداد اللازم.

ولا يغفل لحظةً عن التجهيز والتسلح الحربي الصحيح، وانتخاب أفضل الأساليب العسكرية، ولا يتوانى في الوقت نفسه عن اكتشاف الطرق المختلفة التي تؤدي إلى بث التفرقة وإيجاد التصدع في صفوف الأعداء.

نعم.. إنه أسمى مقتدى، وأحسن أسوةٍ للمؤمنين في هذا الميدان، وفي كل الميادين".[الأمثل، ج١٣، ص١٩٧-١٩٨].

على كل حالٍ فمقامات ودوائر التأسي كثيرةٌ جدا، منها ما يتعلق بالسنن، ومنها ما يتعلق بالملكات النفسانية والأخلاق والآداب، ومنها ما يتعلق بالحالة الاجتماعية، وغير ذلك..

هنا أقف عند دائرةٍ من الدوائر التي لا ينبغي الاختلاف في ضرورة التأسي برسول الله والمعصومين –صلوات الله عليهم- فيها، وهي دائرة الأخلاق..

قال تعالى في وصف رسول الله صلوات الله عليه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).[القلم/٤].

تميز رسول الله –صلى الله عليه وآله- بحسن أخلاقه وأدبه العظيم، مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، وعُرِف بصدقه وأمانته قبل وأثناء بعثته بالرسالة، حتى لُقِّب بالصادق الأمين في قومه، وإن كان المقام لا يتسع للكثير، لزم أن نؤكد على ضرورة اتخاذه صلوات الله وسلامه عليه قدوةً وأسوةً في الأخلاق والآداب.

أذكر مسألةً من المسائل المهمة التي تميز بها رسول الله وأهل البيت صلوات الله عليهم، وخُلَّصِ أصحابهم كذلك، وهي ما يتعلق بآداب المجالس، وأشير هنا لاثنين من الآداب:

الأول: عدم التناجي في محضر الآخرين، لما قد يتسبب به من أذى لهم، كما أشارت لذلك الآيات الكريمة في سورة المجادلة (الآيات ٧-١١).

الثاني: التفسح في المجالس، وهو أدبٌ آخر نكتسبه من التأسي بالرسول وأهل البيت صلوات الله عليهم، وقد وردت بعض الروايات التي تشير لذلك، كالحادثة المنقولة عن الإمام الصادق عليه السلام حينما حضر رجلٌ لمجلسه وكان مكتظًا بالناس، فعدل الإمام عن جلسته وأجلسه بقربه.

وهنا أشير لضرورة الالتزام بذلك في مجالسنا ومآتمنا، بالإضافة لاحترام وتوقير الكبير، ولو من خلال التوسعة له والقيام من أجل أن يجلس، وهو أدب موجودٌ ولله الحمد عندنا ينبغي أن نلتزم به ونحافظ عليه وننقله للأبناء.

الخاتمة:

وفي الختام لا بد لنا من ذكر إمام هذا الزمان الحجة المنتظر –عجل الله فرجه- فذكره في كل محفلٍ من المحافل الولائية أجده أمرًا في غاية الأهمية، سواء كان المحفل محفل فرحٍ أو حزن، ولنذكر هنا صفةً من صفاته السامية، لنتأسى به فيها، وهي صفة الصبر.

وُلد صلوات الله وسلامه عليه في العام ٢٥٥ للهجرة، وبدأت إمامته في العام ٢٦٠ للهجرة، وبدأت غيبته الكبرى في العام ٣٢٩ للهجرة، فنحن نتحدث عن أكثر من ألفٍ ومائة عام من الصبر على الفساد والبلايا التي يقابلها بعلمه وعقله، والإذن بالخروج لم يأتِ بعد، فأي صبرٍ هو هذا؟!

ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين..

محمود سهلان
الجمعة ١٧ ربيع الأول ١٤٤١هـ
الموافق ١٥ نوفمبر ٢٠١٩م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مِدادُ أوال من ينابيعِ الخِصال (٢) التوحيدُ أصلُ الأصول

كراهة نيَّة الشر

الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة: المقال العشرون